دخلت عليّ أم عمر وحيّتني بتحية الإسلام وبلّغتني سلام أم محمد التي سعدَت جداً حين علِمَت أنني صديقة مشتركة لهما.. عبثاً حاولت أن أتذكر ملامح أم محمد التي أكّدت أنها تعرفني وأنها لا يمكن أن تنسى لقاءنا ذاك في المسجد في أول عهدها بالالتزام وكيف بكينا من خشية الله جل وعلا وكانت نقطة تحوّل كبير في حياتها.. وفي كل مرة كانت تبلّغني أم عمر سلام أم محمد كنتُ أحاول العودة إلى الماضي علّي أستقي بعض ذكريات تجمعني بها ولكن دون جدوى.. فقررت مرافقة صديقتي إلى منزلها لأعرف من هي تلك الأخت التي انتقلت من أحضان جاهلية إلى نور الإسلام العظيم فتنقّبت وحفظت القرآن الكريم ولزمت بيتها لتأنس بطاعتها لربها جل وعلا ثم لزوجها..
فتح صغيرها لنا الباب وكانت تصلي فدخلنا البيت وجلسنا ننتظر.. وما إن أطلّت حتى فتحت باباً للذاكرة عميقاً.. وكان عناق يليق بالأخوّة وبالغياب الكبير.. وبدأت أم محمد تكلمني عن حياتها وزوجها وأولادها.. وكلما سردت الكلام كنت أُصدَم بما تقول وأحاول أن أحاور دون أن تعطيني أية فرصة لذلك فالتزمتُ الصمت حتى انتهت دون أن أُخفي دهشتي بين حينٍ وآخر..

صديقتي هذه درست في نفس الإرسالية التي درست فيها ثم تخرجّت من إحدى أرقى الجامعات في بيروت وبعدها تعرّفت على زوجها الحالي في العمل لتكتشف جمال الإسلام فتلتزم به راضية مرضية.. زوجها كان يحضِّر للدكتوراة في فرنسا وبين ليلةٍ وضحاها شعر بتفاهة ما يقوم به فترك كل شيءٍ وعاد إلى لبنان ليكمل دراسته الشرعية.. ثم يكتشف أن العلم الشرعي الأكاديمي لا يرضي طموحه فيتركه ليتفرّغ لدراسة القرآن الكريم والسنّة المطهّرة ويعمل الآن عملاً عادياً في مكتبةٍ صغيرة في السوق.. أقنَعَ هذا الزوج أختنا أم محمد التي لم تكن تفقه من الإسلام شيئاً بأفكاره فربّاها على نهجه وعلّمها ما لم تكن تعلم وأنجبا بفضل الله جل وعلا ستة من الأولاد لم يدخل أيّ واحد منهم المدرسة قط! ففي المجتمع فتنة كبرى والأَوْلى تعلّم كتاب الله تعالى في البيت حفاظاً على القلب من الانحراف وتحقيقاً لمبدأ العبادة التي ما خلق الله جل وعلا الإنس والجنّ إلا من أجلها!

وبدأت أختي في الله بالكلام عن حرمة قيادة المرأة للسيارة وحرمة خروجها من البيت لأيّ سبب ووجوب “تخشين” صوتها إن تكلمت مع الرجال الأجانب لحاجة.. فهنا تدخّلت ولم أستطع كبح جماح نفسي من مطالبتها بالدليل الشرعي لما تقول! ثم تطرّقت لعملي وأنّه يجب أن أتركه لأنّ فيه مخالطة للرجال وأتعلّم خياطة أو تطريز أو غيرها وأبقى في البيت دون الحاجة إلى رؤية الرجال أو الصعود في سيارة الأجرة لأن وجودي مع السائق هو خلوة محرَّمة! أما وقد “ابتُليتُ” بالعمل في مؤسسة تضمّ رجالاً فيجب أن أكون في كل وقتي الذي أقضيه فيها كارهة لما أنا فيه وحين أخرج من البيت لأي حاجة أقضيها فعليّ أن أكون كارهة لهذا الخروج وحين أصعد في السيارة لأقود أو لأكون في سيارة الأجرة فعليّ أن أكره ما أنا فيه.. وبمنطق أختي الحبيبة فعليّ أن أكون كارهة لحياتي كلها بجلّ أوقاتها.. وختمت أنه عليّ أن أتضرّع إلى الله جل وعلا أن يبدّل حالي من حالٍ إلى حال يُرضيه لأبقى في البيت دون حاجة إلى الخروج منه إلاّ إلى القبر!

دخلتُ مع أختي الحبيبة في متاهة النقاش.. وكلما ناقشتها في جزئية ولم يحصل الإقناع أشارت إلى الآية الكريمة “ومَن يتّقِ الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب”.. فهل هذه الآية هي الردّ على كل ما اختلفنا فيه؟ وهل التقوى يعني أن نترك الدنيا بما فيها والمنطق والعقل والنصوص والتاريخ وقصص السلف لنجلس مع أبنائنا بين جدران أربع فينزل الرزق من السماء حلالاً زلالاً؟

خشيتُ أن أخبر أم محمد بعدما سمعته منها أنني كاتبة أنشر حرفي في المجلات الورقية والالكترونية وفي مدونتي وأحاور وأنني أتلقّى العلم على يد مشايخ وأحاورهم وأنني حفظت القرآن الكريم على يد شيخ ضرير جزاه الله تعالى عني كل خير لأنه لم يتواجد في حينها أيّة أخت مجازة لأقرأ عليها.. وأنني أعيش في المجتمع وأحاول خدمة الإسلام فيه ونشر تعاليمه بالطريقة التي أستطيع الإفادة فيها وأنني أنظِّم دورات في الإرشاد الأسري وأكلّم مَن يسهِّل لي ذلك.. خفت أن “تكفِّرني” إن هي علِمت كل ذلك!

أنقذني اتصال هاتفي من تلك الجلسة التي جرّتني مُرغمة إلى سلسلة من التساؤلات وعلامات الاستفهام! ودّعتها بحرارة كما لقيتها فلم يُنقِص هذا الاختلاف في الرؤى والتفكير ذرّة من محبتي لها في الله.. حتى “اتهامها” المبطَّن لي في نيّتي وتقواي وصدقي مع ربي جلّ وعلا واعتقادها بسوء فهمي للإسلام وتطبيقي الخاطئ له كل ذلك لم يجرّني إلى أخذ موقف منها بل بقيت أشعر باحترام كبير لها لأنها تعبد الله تعالى بالطريقة التي تراها صحيحة وهنيئاً لها بإيمانها..

خرجت من عندها وأنا أحاول أن أفهم لِم ترك زوجها الدكتوراة وعاد ليكون رجلاً عادياً في المجتمع! أفلم يكن أولى له أن يتعلّم ويفيد الأمّة بهذا العلم؟ ألم يكن من الأفضل له أن يعلّم أبناء المسلمين ويسلِّط الأضواء على إعجاز الله في خلقه وآياته الكبرى جل وعلا ليثبّت الإيمان في قلوبهم بدل من أن يعلمهم الكفرة الملحدين الذين يأخذون بهم بعيداً عن طريقه جل وعلا؟! ألم يكن يستطيع أن يقوم بتدارس القرآن الكريم والسنّة المطهّرة وهو في أي مركز أو مكان دون الاضطرار الى ترك العلم الأكاديمي؟! هل من تناقض بين أن يكون متعلِّماً وبين أن يكون حافظاً لكتاب الله جل وعلا؟!

لم أفهم لِم على الأبناء أن يدفعوا ثمن حياة ارتضيناها لأنفسنا وقد تكون غير ما يريد الإسلام أصلاً! فمن قال أن الإسلام يدعو إلى إبقاء الأبناء في صومعة لا يخرجون منها خوفاً عليهم من الفتنة؟! ألا يستحقون أن يتعلّموا في زمن بات العلم فيه ركيزة أساسية وهامّة؟ ألا يوجد مدارس إسلامية وغير مختلطة يمكنهم تلقّي العلم فيها مع العلم الشرعي أيضاً؟ هل الحل أن نعزلهم عن المجتمع ليعيشوا في بوتقة ضيّقة تضم الأم والأب واخوانهم فقط حتى إذا ما خرجوا إلى العالم “الآخر” في الخارج يوماً انصدموا بكل ما فيه وكل من فيه؟! وما ستكون خدمتهم لدينهم وأمّتهم إن بقوا في البيت فقط يحفظون القرآن الكريم؟ ولِم نختار عنهم ولهم؟! أليس هذا إجحافاً لهم وطمساً لإمكاناتهم وقتلاً لإبداعهم؟! تخيّلت لو كل المسلمين فعلوا ذلك أفسيعود للدّين مجده حينها؟!!

ثم ما هذا الإنجاز أن أبقى في البيت ولا أعاشر أحداً ولا أخرج ولا يأتيني إلا أخواتي الملتزمات فأين مخالطة الناس والصبر على أذاهم وأين التبليغ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وماذا سيكون حال الأمّة إن بقيت الملتزمات في بيوتهنّ دون خوض غمار الدعوة بالطريقة التي يرونها مناسبة وبعيداً عن الرجال.. فإن لم يفعلن أفلا يكنّ بذلك يتركن الساحة للإلحاد والعلمانية تصول وتجول وتقطف بنات المسلمين وإيمانهنّ؟!

اجتاحت عشرات الأسئلة رأسي وتمنيت لو وجدتُ أجوبة على ربعها فقط! هل تطبيق الإسلام الصحيح هو فعلاً ما يطبقه هؤلاء؟ وهل هذا هو السبيل لإعادة نشره وهل هذه مفاهيمه الصحيحة؟! وهل هكذا كان يعيش الصحابة فعلياً وهل نشروا الدِّين بهكذا توجّه؟ وهل هذا هو الحل لوضع المسلمين المتردّي بين الأمم حتى بتنا في مؤخّرتها؟!

لا ننكر أننا بحاجة للعودة إلى الله جل وعلا أولاً وتعزيز الإيمان به والاستقاء من المعين الأصلي: الكتاب والسنّة..

ولا ننكر أن لدينا الكثير من الممارسات التي هي بحاجة إلى تغيير لتتناسب مع تعاليم الإسلام..

ولا ننكر أن الأَوْلى للنساء عدم مخالطة الرجال والقرار في البيت ما استطعن إلى ذلك سبيلا..

ولكننا في نفس الوقت لا ننكر أن مثل هذه الممارسات من البقاء في الصومعة وإبقاء أولادنا بعيداً عن العالم “الخارجي” هو جهل بجوهر الإسلام.. والإدّعاء أنّ في كتاب الله كل العلم وكل ما يحتاجه المرء في الحياة هو محض افتراء! وبالنسبة لي لا يختلف كثيراً شططنا في البُعد عن شططنا في القرب.. وأقصد بذلك أن تطبيق الاسلام بالطريقة الخاطئة ونحن نحسب أننا نحسن صنعاً وغلّونا في أمورنا، لا يقل سوءاً عن بُعدنا عن الشرع في معايير معيّنة وتقصيرنا في تطبيقه..

فالإفراط والتفريط وجهان لعملة واحدة.. وكلاهما لن يعيد للإسلام عزّه بل كلٌّ يدكّه بمعول يهدم ولا يُصلِح..

ولن تقوم للدِّين قائمة إلا بفهم صحيح للإسلام كما فهمه الأوائل وبتطبيق لتعاليمه كما جاء بها الحبيب عليه الصلاة والسلام دون غلو أو تفريط.. وما دون ذلك فأعباء نلقيها على كاهل الإسلام بإسم الدِّين وقد يكون منها براء.. أو ابتداع ما أنزل الله به من سلطان..

فلنحذر!

 

سحر علي المصري

موقع الظلال الوارفة

JoomShaper