هذه قصة ترسم أحد أوجه مجتمعات الفردية والأرحام المقطوعة، البطلة فيها سيدة فرنسية تبلغ من العمر 58 عاما، وتعيش في بلدة «ماسون» وسط شرق فرنسا.
هذه السيدة تأخرت في دفع قيمة الإيجار الشهري لمسكنها. حتى تراكمت عليها بصورة لفتت الأنظار، في الوقت ذاته فإنها امتنعت عن الرد على الإنذارات التي أرسلت إليها. فتوجه إلى مسكنها موظف مكلف بتحصيل الديون ومعه نجار مختص بكسر الأقفال، بصحبة شرطي.
وبعد قرع الباب وكسر القفل دخلوا إلى الشقة، وفوجئوا بمنظر صعقهم، إذ وجدوا السيدة جالسة فوق المرحاض وقد تحوّلت إلى هيكل عظمي!
لم يكشف تشريح الجثة أن الوفاة حصلت بسبب اعتداء خارجي، كما لم يلاحظ المحققون وجود آثار عنف أو تحطيم أثاث داخل الشقة، الأمر الذي أقنعهم بأن الوفاة طبيعية، وحين أرادوا أن يتعرفوا على تاريخ الوفاة، فإنهم فتشوا في أوراقها، وعثروا على رسائل ووثائق مؤرخة ببدايات عام 2006، الأمر الذي رجحوا معه أن تكون الوفاة حدثت في تلك الفترة. وهو التقدير الذي تطابق مع تقرير الطبيب الشرعي.
تيقن المحققون من أن أحدا لم يزر السيدة أو يسأل عنها خلال السنوات الثلاث التي مضت، وحين سألوا الجيران كان ردهم أنهم ظنوها تركت شقتها وانتقلت إلى السكن في مكان آخر.
وبذلت الشرطة جهدا للوصول إلى أبنائها حتى تمكنت من العثور عليهم والاتصال بهم. وعند سؤالهم كان ردهم: إن الصلات انقطعت بينهم وبين أمهم منذ ثماني سنوات.
القصة نشرتها صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية في 31 أغسطس، وهو ما دفعني إلى مواصلة البحث في الموضوع. فوقعت على تقرير أعده اثنان من علماء النفس بجامعة شيكاغو، أثبت أن الوحدة مع التقدّم في السن تساعد على إفراز هرمونات سامة مسببة للإحباط،
ووجد العالمان لويز هوكلي وجون كاسيوبو أثناء دراستهما لحالات أشخاص تتراوح أعمارهم ما بين 50 و68 سنة أن الذين يعيشون وحيدين يشعرون بالتهديد والعجز أكثر من غيرهم، ولا يميلون إلى طلب المساعدة في حالة الإحباط،
وحين قاما بتحليل عينات بول المشاركين، اكتشفا وجود هورمون «ايبينفرين» المحفز للتوتر بكميات أكبر لدى الأشخاص الوحيدين.
وخلصا من دراستهما إلى أن أولئك الأشخاص لا يعانون فقط من الآثار النفسية للوحدة، وإنما من آثارها الجسدية أيضا.
وجدت أيضا تقريرا أميركيا آخر لفت الأنظار إلى ارتفاع معدلات الانتحار بين المسنين، وكان مركز «مراقبة ودرء الأمراض» في واشنطن قد أصدر إحصائية ذكرت أن 14 مسنا من بين كل مئة ألف ينتحرون سنويا، جراء شعورهم بالوحدة والانعزال، ومن ثم اليأس من الحياة.
وقد نشر المركز هذه الإحصائية بعد انتحار سيدة من كاليفورنيا بصورة أثارت اهتمام وسائل الإعلام. وكانت السيدة بيال جالون قد تقاعدت عن عملها في مكتبة قريبة من منزلها، وفي يوم انتحارها حررت شيكات بجميع الفواتير التي تلقتها على عنوانها، ووضعتها بنفسها في صندوق البريد، وعادت إلى بيتها لتطلق الرصاص على نفسها وتفارق الحياة.
تحدث التقرير أيضا عن رجل من فلوريدا قتل زوجته ثم انتحر بسبب الإحباط، ذلك أنه بعدما أصيبت المرأة بمرض الارتعاش، انقطع الزوج لرعايتها، ولم يعد يمارس شيئا مما يحبه، فقرر أن ينهي حياتها وحياته بهذه الطريقة.
القصة تكررت في النمسا، حين أقدم رجل في الثالثة والتسعين من عمره على ذبح زوجته وأم أولاده بسكين المطبخ، وهي عجوز في الثالثة والثمانين من العمر. ثم اتصل هاتفيا بابنه وأبلغه بفعلته. وكان الرجل الذي أشير إليه باسم جوزيف (ك) قد حاول الانتحار بعد ذلك، ولكنه فشل، وفسر الأطباء النفسيون تصرفه بأنه تعبير عن استسلامه للإحباط واليأس من الحياة، وشعوره بقرب أجله، ما دفعه إلى أخذ زوجته معه بدلا من تركها وحيدة بعده.
في أمثالنا نقول «إن الوحدة خير من جليس السوء»، لكن حقائق الواقع تدفعنا إلى إعادة النظر في المقولة، لأنه ربما كان جليس السوء أخف ضررا من الوحدة المؤدية إلى الانتحار.
صحيفة الرؤية الكويتيه