يعرف الجراد بأنه حشرة شديدة الفاعلية التخريبية، بحيث يقال في المثل ما معناه: كأنه الجراد لم يترك أخضرا ولا يابسا. ولا يجد الجراد نباتا في خط سيره إلا واتى عليه بشكل يقرب للتخريب أكثر منه للاستهلاك، بحيث انه لايفرق حين يدمر، بين الأعشاب الجبلية وبين الشجر المثمر وبين الأزهار، كلها سيان لديه، فبالنسبة لهذه الحشرة، ما يعنيه هو أن يستهلك ويدمر ويمضي، ولا يهم الجراد ماهية النباتات التي يدمرها ويخربها ولا قيمتها الجمالية ولا الغذائية، لان تلك أمور أكبر من أن يعيها، حشرة الجراد تختزل الوجود ببعد واحد، هو بعد الكسب المادي والقدرة الكامنة بالشيء المستهدف على إدرار المادة.
وحينما يستهدف الجراد منطقة، وتكون سهلة المنال مكشوفة من دون حماية، فإن تلك المنطقة تنتكس وتخرب لامحالة.
ولسوء حظ بعض البلدان فإنها ابتليت بأناس، لم ترتض من كل الصفات والشمائل إلا أدناها من تلك التي تماثل ما لدى الجراد، بحيث انك لاتعرف عنهم إلا السعي المرضي للتملك المادي والاستزادة من كل نشاط يدر الربح بكل الطرق، وخطورتهم تتأتى من حيث انهم لا يكادون يراعون المبادئ والقوانين إلا بالقدر الذي يضمن تواصل أعمالهم، بحيث تصبح أنشطتهم كمرور الجراد، حينما لايفرق بين الاعشاب الجبلية وبين الأزهار، كل الأمور سيان لدى هؤلاء، فلا يكادون يتركون اخضرا او يابسا إلا واتوا عليه.
ولست أريد استقصاء الأسباب التي تفسر تغوّل هذه العصابات التي تحولت إنجازاتها لما يشبه الإقطاعيات الاقتصادية العائلية، وان كان بعض تفسير ذلك يوجد في أن اغلب هؤلاء من مستحدثي النعمة ممن كانوا على حال التواضع المادي والاجتماعي التي يعرف بأمرها التونسيون، ثم أمسوا بقدرة قادر أصحاب مجموعات اقتصادية ضخمة.
ثم إنني لست أريد تناول كل الآثار التدميرية لأنشطة جحافل الجراد هؤلاء، لان ذلك اكبر من أن يستقصى في مقال واحد، ولكني أردت أن أتناول بعجالة الآثار الكارثية التي أحدثها هؤلاء حينما اجتاحوا مجال الإنتاج الإعلامي بتونس وتمكنوا من السيطرة عليه بأقدار كبيرة.
الإنتاج الإعلامي بتونس حينما تجتاحه جحافل الجراد
لعل من الأمور النادرة بتونس أن يقع الاتفاق ضمنيا لدى الرأي العام على خطورة ما يقدم من انتاجات إعلامية مرئية ومسموعة بوسائل إعلامنا، وانظر إن شئت السخط الذي لاقته بعض الانتاجات المرئية التي قدمت بشهر رمضان الحالي، وانظر إن أردت التأكد للرفض الذي ووجهت به برامج تنشيطية عديدة موغلة في السقوط والترويج للفواحش، كانت ولازالت تقدم من قبل في إشكال متنوعة، ولكنها تشترك في عامل واحد وهي إنها منسوخة عن برامج أجنبية حيث وقع شراء حقوق إعادة بثها.
وما يجمع كل هذه المواد المعنية المدانة ، هو أنها انتاجات مرئية تروج جهارا لكل قيم الانحراف من سكر وزنا وخيانة زوجية وديوثة ومخدرات واتخاذ الخليلات والتحلل والتسيب عموما، كما تعمل على تكريس السلوكيات المنحرفة وعلى التطبيع معها، مما يحيل تلك الانتاجات المرئية لأدوات لكسر الحواجز النفسية و ترويج كل قيم المجون والرذائل وتصويرها على انها شيء طبيعي، وتنتهي هذه الأعمال للكشف عن حقيقتها من أنها مجرد عناصر لتكريس واقع الانحدار الذي يعيشه المجتمع التونسي، كتزايد نسب الطلاق والعنوسة والتفكك الأسري وتنامي مؤشرات الانحراف لدى الشباب، واتجاه المجتمع التونسي نحو التناقص العددي، دعك مما يبرر به أصحاب هذه الانتاجات الساقطة من ان ذلك ثقافة وفن.
كما تعمل برامج أخرى على استهداف شرائح الشباب والأطفال من خلال محتويات تشجع على الرذائل من خلال كسر الحواجز النفسية لرفضها، ويستهدف هؤلاء بمحتويات المجون والرقص والاختلاط الفاحش، ويقع الإعلاء من شأن السقطة من خلال الاحتفاء بالمنحرفين من الزناة وأمثالهم من سقط المتاع كالصعاليك والديوثين، وينتهي الأمر للتطبيع من سلوكياتهم من خلال تقديم الأعذار لهم ولسلوكياتهم ولترديد القول بوجوب تفهم حالاتهم لدواعي إنسانية، ومن ثم العمل على قبول الانحرافات كمعطى طبيعي وهو معنى التطبيع مع الانحرافات.
وبالطبع كان للقطاع الإذاعي نصيب من استهدافات جحافل الجراد هذه، فتم نشر الرداءة وتكريسها والترويج لكل قيم الانحطاط والإعلاء من شان رموزها الذين قدموا ويقدمون على أنهم قدوات للشباب.
كما أن العامل المشترك في جل هذه الأعمال الساقطة الخطيرة التي تروج بالإعلام العمومي –من دون ان يعني ذلك عدم خطورة مايقدم بالإعلام التونسي الخاص الذي كان مصدر الوباء ابتداء-، هو كونها تنتج من جهات خاصة معينة اتخذت من وسائل الإعلام التونسية العمومية كمنافذ لترويج انتاجاتها الخطيرة، لكأن القنوات العمومية التونسية الممولة من أموال دافع الضرائب التونسي كتب عليها ان تكون داعما لشركات خاصة، فضلا على أن تكون تلك الأعمال من أرذل الانتاجات وأسقطها.
وجوب التصدي للتطاول على الإسلام والقيم بتونس
لئن كان الرفض لمثل هذه الانتاجات الموغلة في السقوط قد شمل كل الشرائح الفكرية تقريبا ويكاد يكون متفقا عليه بتونس، فان وجوب التصدي لتلك الاستهدافات، ثم الحديث في آليات التصدي هذه ان وجدت، لم يقع الإجماع عليه، لأنه لم يكد يقع تناول مفصل لمثل هذا الجانب من الموضوع.
موضوع التصدي لتحول وسائل الإعلام التونسية لأدوات لترويج الفاحشة، يمكن النظر إليه من زوايا عديدة:
- لا يعقل أن تتحول مؤسسات عمومية كمنفذ لترويج انتاجات أطراف خاصة حتى وان كان ذلك بصيغ قانونية متفق عليها، لان المسالة ان كان ينظر إليها هكذا ابتداء، فان المؤسسة العمومية تتحول لمجرد مروج للغير وتابع له، والحال ان هدف المؤسسة العمومية يختلف عن أهداف أي مؤسسة خاصة، الأولى من حيث أنها مستأمنة على قوانين وقيم البلاد يعنيها ان تتثبت في الانتاجات قبل ان تعرضها على العائلات التونسية، أما الثانية فمن حيث انها مؤسسة خاصة، فلا يعنيها الا الربح بدرجة أولى.
- ثم انه على افتراض انه تم التثبت أصلا في التزام الإنتاج بالضوابط وهو مالم يقع على الأرجح نظرا لما يعرض، فان العلاقة بين مؤسسة عمومية وأخرى خاصة يجب أن لا تبقى رهينة عوامل تجعلها في شكل احتكاري، وإلا فانه يعمل على كسر تلك العلاقة ولو بخلق الطرف العمومي لمؤسسات أخرى خاصة وتشجيعها لها مثلا أو الغاء العلاقة القائمة مع ذلك الطرف الخاص في غياب البديل، كل ذلك نأيا بالنفس من ان تكون المؤسسة العمومية ضحية ابتزاز محتمل لأي طرف خاص، او ضحية لاختياراته التي لايهمه فيها الا الربح المادي، وحفاظا على المال العام ورعاية لقوانين البلاد من احتمال أن تتحول لوسيلة في أيدي البعض لتمرير مصالحه الخاصة على حساب المواطن التونسي ومن أمواله.
- ولما تكرر بث محتويات موغلة في السقوط بوسائل الإعلام التونسية، فان ذلك يعني إما انه لا توجد جهات تقوم بالتثبت في مدى ملائمة مايعرض لقيم وقوانين البلاد، وإما أن تلك الجهات توجد ولكن تمريرها لتلك الأعمال المروجة للفاحشة ولقيم الانحدار، يعني عدم كفاءتها لتلك المهام، ومن هنا فانه حان الوقت للتثبت في تلك النقاط.
- مسالة التأكد من مدى ملائمة ما يعرض بالإعلام التونسي، لايجب ان ينظر فيه فقط لرأي بعضهم ممن يسمى فنانين ومختصين، لان التجارب أثبتت ان الخطر يأتي بدرجة أولى من طرف هؤلاء الا من رحم ربك، وإنما يجب النظر كذلك حين إقرار تلك الإنتاجات لرأي المواطن العادي الملتزم بدينه وبقيمه والمراعي لها والمتخذ لها كضابط، بحيث يمكن ان ينظر - مؤقتا في انتظار ان يقع تأسيس جهاز مستقل مختص-، في تكوين هيئة تكون تابعة للمجلس الإسلامي الأعلى مثلا او أي جهة اخرى مناسبة مشابهة، يعهد إليها بان تقر أو ترفض او تعطي ملاحظات حول الإنتاجات التي تعرض على القنوات التلفزية التونسية، كما ان هذا الجهاز يجب ان يكون مستقلا، ولما لا يكون في شكله النهائي مكونا من شخصيات مستقلة ليس منهم موظفون حكوميون، وهو مايعطي مصداقية لآراء تلك الهيئة.
- كما إن النظر في أمر تزايد جرعات السقوط بالإعلام التونسي، يمكن أن يواجه كذلك من خلال مجهود صد أهل الباطل عموما بتونس، إذ أن تزايد تطاول البعض بتونس على القيم و الإسلام (انظر تهجمات الزنادقة بالفضاء التدويني ذات الأشكال المتعددة من سخرية من شرائع الإسلام ودعوات للفاحشة وللإلحاد وغيرها، وانظر تزايد أنشطتهم بالجامعات التونسية والحرية التي يلقونها للترويج لأطروحاتهم)، يجعل من المفيد التفكير في تكوين منظمات أو جمعيات مدنية / أهلية تعنى بمواجهة المتطاولين، ويكون من مهام هؤلاء الغيورين التتبع القانوني ضد دعاة الفاحشة والمتهجمين على الإسلام عموما، كما انه يجب تحريك النقاش في ضرورة إيجاد قوانين تونسية تنظم مجهودات الحسبة والاحتساب وهي مجمل الأنشطة الناهية عن المنكر والمتصدية لدعاة الفاحشة وأهل الباطل، وذلك في ظل استقالة الجهات الرسمية أو لعله عجزها أمام ظاهرة تنامي التطاول على القيم و الإسلام عموما بتونس.
- ولا يعقل منطقا ان تتواجد مآت المنظمات المدنية بتونس، منها الذي يدافع عن الحيوان ومنها الذي يدافع عن الطبيعة، ومنها ذاك الذي يروج للفاحشة ويقيم لها المهرجانات (تحت مزاعم الفن كالرقص والغناء والعناية به وبرموزه المنحطة التي أضحت قدوات لأبنائنا)، ثم إنه لا توجد بالمقابل منظمة تعنى بمواجهة طوفان الفواحش والداعين لها، أو منظمة تعني بالدفاع عن دين الله في وجه المتهجمين عليه والصادين عنه.
ويفضل أن تحتوي هذه الجمعيات شخصيات قانونية بدرجة أولى، ولكن يمكن ان يلتحق بها أشخاص عاديون يساعدون في تتبع المتطاولين وتوثيق أعمالهم الإعلامية (حينما يتعلق الأمر بانتاجات تلفزية أو إذاعية) او المكتوبة.
موقع بوابتي