أثار التركيز على تصوير العلاقات والتجاوزات الجنسية في العديد من المسلسـلات السورية التي عرضت في موسم رمضان المنصرم، امتعاض بعض الشـــرائح الاجتمــاعية التي رأت في التركيز على هذا الأمر، نوعا من الاعتداء على حرمة البيوت والأسر التي يدخلها التلفزيون بلا استئذان، فيخاطب شرائح عمرية متفاوتة، ومشاهدين متفاوتي الثقافة أيضاً، قد لا يكونون مهيئين لتلقي مثل هذه الطروحات في مشاهد درامية غير معللة تربوياً، ليس في شهر رمضان الكريم الذي يتمتع بخصوصية دينية تجعل مثل هذه الموضوعات منفرة وحسب، بل حتى خارج الموسم الرمضاني، حيث ينظر لمثل هذه الموضوعات نظرة تختلف عن نظرة صناع الأعمال الفنية بالتأكيد!
سفاح قربى وشذوذ جنسي!
في مسلسل (شتاء ساخن) للكاتب فؤاد حميرة والمخرج فراس دهني، علاقة جنسية صادمة بين بطل العمل وزوجة أخيه، رأى فيها بعضهم نوعاً من (سفاح القربى) على اعتبار أن زوجــة الأخ تصبح فرداً من أفراد أسرة الزوج، فتربطها علاقة أخوة معنوية واجتماعية مع شقيق زوجها... وبالتالي فالعلاقة الجنسية معها والزوج على قيد الحياة ، تبدو شديدة الوقع في العرف الاجتماعي.
وفي مسلسل (عن الخوف والعزلة) للكاتب فادي قوشقجي، والمخرج سيف الدين سبيعي، ثمة تركيز على علاقة جنسية حارّة بين إحدى شخصيات العمل وصديقة زوجته، يمكن القول ببساطة إنها تدخل في إطار الخيانة الزوجية... ناهيك عن خيانة علاقة الصداقة... ومن المؤسف أن المسلسل لا يقدمها في سياق نقدي، بل باعتبارها حالة يمكن أن تكون مألوفة وعادية جداً ما دامت تتم بالتراضي وتنجح في إخفاء نفسها عن الطرف المتضرر... ويحفل (عن الخوف والعزلة) بكثير من الأفكار التي تستحق التوقف فهو حين يبرر العلاقة الجنسية خارج إطار الحياة الزوجية ويفلسفها بقوة باعتبارها شكلا من أشكال ممارسة الحياة والتحرر من قيود المؤسسة الزوجية، أو حين يعرض شخصية شاب شاذ أو (مثلي) بكثير من الحيادية... رغم ما يكتنف التعبير عن المشاعر المثلية من غموض وتلميح ملغز أحياناً!
أما مسلسل (سحابة صيف) للكاتبة إيمان السعيد، والمخرج مروان بركات... فهو يصدم المشاعر في البداية، حين يتحدث عن حالة تحرش أب بابنته.. إلا أننا نكتشف في النهاية أن المتحرش ليس هو الأب الحقيقي بل زوج الأم، لأن الأم حملت من رجل آخر كان قد عقد قرانه عليها قبل أن يتما مراسم الزواج، فأرادت درءا للفضيحة أن تنسب ابنتها وابنها التوأم لرجل آخر... وفي المسلسل ذاته، نجد شخصية رجل متزوج يعاني شذوذاً من نوع مختلف عن حالة المثلية الجنسية التي قدمها (عن الخوف والعزلة)... فهو يهوى اغتصاب الأطفال ذكوراً وإناثاً... فيغتصب صبياً، ثم يحاول التحرش بابنة جارته الطفلة، إلى أن يتمكن من الاستفراد بها أثناء خلو المنزل من زوجته وغياب أمها، فيحاول اغتصابها أو لعله يتمكن من ذلك بدليل وجود كدمات على جسدها كما تكتشف الأم لاحقاً.. ويتسبب هذا بتأزم الحالة النفسية للطفلة، ما يدفع الأم في النهاية إلى الانتقام منه عبر ضربه بآلة حادة في منطقة حرجة!
ويقدم مسلسل (سحابة صيف) أيضاً مشهداً صادماً لشاب فلسطيني مغترب، يتحرش بزوجة أخيه ويحاول اغتصابها، لولا تدخل شقيقه في اللحظة المناسبة، صحيح أن المشهد يبدو هنا مداناً بوضوح في السياق الدرامي، بخلاف الحالة التي يقدمها مسلسل (شتاء ساخن)، لكن ما نراه في النهاية يضاف إلى سلسلة من المشاهد التي تصور علاقات وتجاوزات جنسية حفلت بها الدراما السورية، وكأن المطلوب من هذه الدراما اليوم أن تبيح الحديث في الجنس وفي العلاقات المحرّمة والمنبوذة في العرف الاجتماعي، لتوصف بأنها جريئة ومتحررة وقادرة على تجاوز ما وصل إليه الآخرون على صعيد الدراما التلفزيونية، بما فيه المسلسلات المدبلجة!
خيانة واغتصاب!
ولا يتوقف الأمر عند تلك الأعمال، فمسلسل (قلبي معكم) للكاتبة أمل حنا والمخرج سامر برقاوي، يقدم لنا طبيباً شهماً ذا قلب رحيم وصورة ناصعة في التعامل مع مرضاه في المشفى، لكنه لا يتورع عن الوقوع في حب زوجة صديقه ومحاولة التحرش بها في بيته!
وخارج إطار مشاعر الغيرة التي تعاني منها زوجته الشابة الصغيرة التي اختارها عن حب، ومشاعر الحيرة التي يعاني منها المشاهد إزاء التناقض الصارخ بين مثالية الطبيب المصنوعة، ونذالة الزوج المستبد بخيانته ورخص مشاعره؛ فإن صناع المسلسل لا يصدرون أيضاً أي حكم تقييمي واضح على خيانة الزوج من جهة، وعلى خيانة الصديق من جهة أخرى... على العكس يبدو هذا الطبيب قمة في الإنسانية لدرجة أننا نشعر أنه يجب أن نتعاطف مع نزواته العاطفية ونحترمها حتى لو كانت على حساب أي قيمة أو صداقة... فصناع العمل يطرحون هذه العلاقة باعتبارها (حالة حب) فيها الكثير من الصدق والرومانسية والرغبة والألم... ولأنها (صادقة) هكذا... ولأن صاحبها (يتألم) هكذا... فينبغي تأملها خارج المعايير الأخلاقية... ويمكن أن ندرك خطورة أن تفكر فتاة أو شاب مراهق يشاهد هذا المسلسل من الزاوية نفسها، بلا أي وعي بخطورة الانسياق وراء ذاتية أو (فنية) الحالة!
وفي مسلسل (آخر أيام الحب) للكاتب هاني السعدي والمخرج وائل رمضان، يحاول صاحب مشغل للخياطة في حارة دمشقية في الخمسينيات اغتصاب فتاة جميلة تعمل عنده، فتطعنه وتهرب... وعندما يتعافى يكرر محاولته مع زميلتها وينجح في الضغط عليها واستغلال وضعها المادي من أجل تلبية رغباته... كل هذا يمكن أن نتفهمه درامياً باعتباره حالة فردية يمكن أن توجد في أي زمان ومكان، لكن ما يبدو مثيراً للاشمئزاز أن يتناقش صاحب المعمل مع جيرانه وأصدقائه في الأمر علناً وكأن اغتصاب الفتيات العاملات في المشاغل داخل الحارات الشعبية في دمشق في خمسينيات القرن الماضي، كان عرفاً من أعراف العلاقة مع رب العمل!!
ويبقى غيض من فيض أثار مشاعر الغضب والاستياء... ليس من قبل الشريحة المحافظة فقـــط، بل من قبل الكثير من المتنورين، الذين يرون أن مسلسلات التلفزيون ليس مكان مناقشة هذه الحالات الشاذة..
ذلك أن تصوير العـــلاقات الجنسية المنحــرفة ينطــوي على جاذبية وإثارة في التشخيص الدرامي، وبالتالي فهي تروج لمثل هذه الأشياء بدل أن تحاربها، أو أنها على الأقل تلفت نظر المراهقين الذين لم يعرفوها من قبل.. وتثير فضولهم واهتمامهم المبكر بها!
إثارة تقتحم البيوت!
طبعاً ثمة أكثر من رد جاهز لدى صناع هذه الأعمال وسواها، من الذين يرون أن من حق الفن أن يناقش كل القضايا بكل الطرق والوسائل، وأن وظيفة الفن هي الحديث عن السلبيات وليس تقديم نشرة ترويج سياحي تؤكد أن حياتنا بخير ومجتمعنا عال العال... وشخصياً أتفهم مثل هذه الردود، وأفهم أن للفن دوراً تنويرياً في المجتمع... لكن علينا أن نفهم في المقابل حق الآخرين في حماية أبنائهم مما قد يشكل (تجاوزاً في الخطاب الفني) وتسليط ضوء على حالات لن يكون بمقدور تلك الأعمال وسواها مناقشتها بإسهاب، ذلك أن سياق الأحداث قد لا يتيح المساحة الكافية لمناقشة ملابسات تلك الحالات وخلفياتها.. وهكذا تبقى هذه المشاهد معزولة عن أي خطاب تربوي أو توعوي يمكن أن يحذر منها.
ويجب أن نوضح هنا أننا لسنا مع هكذا خطاب، ولا نطالب بوجوده في الأساس، لأنه سيؤثر على الجانب الفني، وينال منه ويوقع العمل في فخ المباشرة، لكن على صناع هذه المسلسلات وسواها، أن يفهموا أن هذه الموضوعات ليس مكانها دراما التلفزيون التي تخاطب شريحة مختلفة عن جمهور السينما أو المسرح... وأن جرأة دراما التلفزيون إن صح أن نسمي ذلك جرأة- يجب ألا تأتي على حساب تقبل الناس للدراما السورية والثقة بأنها دراما يمكن أن يشاهدها أفراد العائلة دون أن يشعروا بالخجل أو الخوف من شطط بعض طروحاتها.
إن اختيار الأسلوب المناسب لطرح الموضوع، يبقى أحياناً أكثر أهمية من الموضوع نفسه... ولعل أجواء صناعة الدراما التلفزيونية اليوم بما تنطوي عليه من هواجس تجارية وفوضى إنتاجية وسيطرة لمنتجين شبه أميين أو نجوم مرضى بنرجسيتهم، تكشف أن عدم الوعي بالأسلوب سببه السعي نحو فبركة حدث مثير وعلاقات ساخنة، أكثر مما هو تقديم دراما اجتماعية تنويرية كاشفة ومؤثرة... كما أن ما يقال عن الاصطدام مع الرقابة والجرأة في الطرح عبر الاقتراب من هذه الموضوعات، ليس أكثر من كلام للتسويق الإعلامي وصناعة بطولات زائفة، ففي سورية حيث يغيب مفهوم الرأي العام في كل القضايا، لا تقيم الرقابة وزناً للمجتمع إلا إذا ارتبط الاعتراض الرقابي مع مدلول سياسي... ومادام أن المجتمع لا يستطيع أن يخرج في تظاهرة للاحتجاج على مسلسل، ولا توجد لديه صحافة تنقل رأيه ووجعه... فكيف يمكن للرقيب أن يقيم وزناً لاعتراضاته، وكيف يمكن أن يكون استفزاز مشاعر المجتمع جرأة وبطولة؟!
'باب الحارة' قيم بلا محظورات!
أجل لقد استفز الاستغراق في الحديث عن العلاقات الجنسية المشبوهة في المسلسلات السورية هذا العام مشاعر الكثير من الفئات وهم يتابعون تلك المسلسلات في أجواء شهر رمضان، وشعر بعضهم أن معتقداته بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا معها- مهددة في الصميم من أجل تقديم إثارة درامية لا معنى لها... ومن هنا يمكن أن نفهم لماذا غدا (باب الحارة) المسلسل المضمون اجتماعياً وتربوياً والموثوق عائلياً، والذي يشاهده أفراد العائلة كباراً أو صغاراً، دون أن يخجلوا من مشهد امرأة تنام على صدر زوج صديقتها، أو من حوار يسوق مفاهيم مربكة عن وسائل ممارسة الجنس قبل الزواج، أو من رؤية محاولة إجهاض مملوءة بالدماء في مناطق حساسة ومحرجة بصرياً... وبالطبع فـ (باب الحارة) ليس هو الحل والملاذ... وليس المطلوب إنجاز أعمال على شاكلته... لكن المطلوب تقديم دراما اجتماعية جريئة ومتنورة، وجزء من إيمانها بالتنوير هو ألا تسعى للإثارة والاستغراق في تصوير العلاقات الساخنة، على حساب رسالتها الاجتماعية، ووعيها بدورها ومكانتها!

 

محمد منصور - القدس العربي

 

JoomShaper