شغلت مسألة البحث عن الجمال عقول البشر منذ القدم، وعني بها الفلاسفة و العلماء و الأدباء، ووضعوا لها نظريات وتصورات منها ما يركز على جمال الروح و الباطن، ومنها ما يجعل الحظوة لجمال الوجه والظاهر، وهذه الاختلافات تؤكد على أمر واحد هو نسبية الجمال، أو كما يقول المثل الانجليزي "الجمال في عين الناظرBeauty is in the eyes of the beholder"، فمقاييس الجمال تختلف بين الناس والثقافات، إلا أن طغيان وسائل الإعلام، و مشهد الصورة الملونة، و ثلاثية الأبعاد، و الخيال الافتراضي، و برامج و مختبرات تحسين الصورة جعلت للجمال و الحسن صورة واحدة و مقياسا حادا لا يقبل الانزياح أو الاختلاف، فمن كان ضمن حدود المقياس يحظى بالقبول الاجتماعي و الوظيفي و السعادة، و من شذَّ عُدَّ من المنبوذين.
بالنسبة للنساء كانت صفات الجمال العربي بعيدة كل البعد عن الجمال الغربي الذي يسوقه الإعلام اليوم بالشعر الأشقر، والخصر الناحل، والعيون الملونة، فالمرأة العربية كان جمالها بالعيون الحوراء، و هي العيون السوداء الكحيلة التي يحيط بها بياض صاف،و في هذه العيون قيل أغزل بيت مصنف في شعر العرب لجرير:
إن العيون التي في طرفها حور*** قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك له*** وهن أضعف خلق الله إنسانا
و زاد العرب أن جعلوا من جمال المرأة الحسي أن تكون طويلة بيضاء مبدان (أي ممتلئة)، فقد كان الامتلاء علامة صحة و خصوبة، بشعر أسود طويل، و إلى جانب الجمال الحسي هناك الجمال المعنوي، فاعتنى العرب بشرف النسب و العائلة و العفة، و كمال العقل و الخلق، و كانوا يكرهون المرأة الخرقاء و يعدونها سببا في خراب البيت و ضياع الولد.
لكن العصر العربي الحديث يشهد في معظمه ابتعادا عن هذه الثقافة الوسطية في الاغتراف من معيني الجمال الحسي والمعنوي، فأصبحت مقاييس الجمال العالمية الغربية هي المعتمدة و المتبعة، و أصبحت العربيات ينفقن على صناعة الجمال و شراء مستحضراته أكثر من مثيلاتهن الغربيات، بل تحول الأمر عند بعض النساء إلى درجة الهوس، فأصبن بالأمراض النفسية و الجسدية للمحافظة على الوزن بالامتناع عن الطعام و الإصابة بالنحافة المرضية anorexia أو التقيؤ اللاإرادي بعد تناول الطعام bulimia وكانت من أشهر المصابات به الراحلة الأميرة ديانا.
و قد راجت سوق عمليات التجميل للتشبه بالفنانين، و يا ليت الأمر توقف عند إصلاح خلل أو مرض أو عيب خِلقي لمرة أو مرتين، ولكنه تحول لدى البعض إلى إدمان بالرغم مما ينطوي عليه من مخاطر ما انفكت وسائل الإعلام تحذر من نتائجه الخطيرة و من انتشار هذه الموضة و الهوس الجديد.
و للرجال دور كبير في عدم رضا النساء عن أنفسهن، فمعظم الرجال أصبح يركض وراء القشرة و يطلب مثل عيون نانسي و قوام هيفا..الخ، و لا يعطي أدنى اهتمام إلى عقل هذه أو تلك، وقلة من النساء من تستطيع فرض شخصياتها شكلا و مضمونا في واقع الحياة برضى تام عن الخلقة التي خلقها الله عليها.
نشر احد مراكز الرياضة في العاصمة الفرنسية باريس إعلاناً يصور امرأة نحيلة فارعة الطول قد لفحت الشمس بشرتها و كتب تحت الصورة: ماذا تريدين أن تكوني هذا الصيف: حوتا أم حورية؟
فبعثت سيدة في منتصف الثلاثينات من عمرها لم تر في نفسها أي تشابه بينها و بين سيدة الإعلان ردا إلى المركز قالت فيه:
لمن يهمه الأمر
إن الحيتان محاطة دائما بالأصدقاء من الدلافين و أسود البحر و البشر الذين يرغبون برؤيتهم، و لديهم حياة أسرية وجنسية ممتازة و يلدون حيتانا في منتهى الجمال، كما ان الحيتان تسبح وتلعب في الماء و تسافر إلى أجمل بقاع العالم، ولديها أصوات رائعة، وليس لديهم أعداء سوى البشر الذين يريدون صيدهم، و العالم كله يحبهم و يحاول الحفاظ عليه.
أما الحوريات فليس لهن وجود، ولو وجدن لكن واقفات بالطوابير أمام عيادات الطب النفسي لمعالجة أزمة الهوية والشكل لديهن: هل هن سمك أم بشر؟ و ليس لدى الحوريات حياة زوجية لأنهن يقتلن الرجال الذين يقتربون منهن، وحتى لو لم يفعلن ذلك، فكيف سيتزوجن و كيف سيمارسن الحياة الزوجية و ينجبن الأطفال؟ ثم من يريد الاقتراب من فتاة تفوح منها رائحة السمك؟!.
و لهذا السبب أنا أختار و بكل عقلانية و ذكاء أن أكون حوتا.
ثم أرفقت ملاحظة قالت فيها: نحن في عصر مسخ فيه الإعلام عقولنا للاعتقاد أن الجميل فقط هو الشخص النحيل، ولكني شخصيا أفضل الاستمتاع من غير خوف مع أطفالي بأكل البوظة، و بوجبة عشاء مع زوجي الحبيب بعد عناء يوم شاق، و بكوب قهوة مع أصدقائي عند التنزه.
نعم مع مرور الأيام تزيد أوزاننا لأننا نكتسب الكثير من المعلومات والخبرات التي تزيد على مساحة عقولنا، و عندما لا تجد لها مكانا في رؤوسنا، فإنها تتوزع على بقية أجسامنا، فنحن إذن لسنا بدينين، نحن أكثر ثقافة و علما وسعادة، ومن اليوم عندما أنظر الى نفسي في المرآة سأقول: يا للروعة..انظري كم أنت ذكية و صاحبة خبرة؟!.
هذه رسالة إلى النساء من امرأة عايشت التجربة الغربية الفرنسية بكل أناقتها وعطورها و دور أزياءها، فلم تجد السعادة فيها، و إنما وجدتها في الحياة الطبيعية والأسرية التي تأخذ من كل شيء بقدر يحقق لها الهناء، و تركز على دفء الروح و القلب بقدر جمال الصورة و المنظر، وهي رسالة للرجال أيضا أن من يرتبط بامرأة لجمال وجهها فقط كمن يشتري بيتا لجمال طلاء واجهته .
د.ديمة طارق طهبوب - الجزيرة توك - عمّان