د.محمد المهدي
كانت هذه الفكرة تلح عليَّ وتطاردني في تعاملاتي اليومية مع كثير من الرجال (أو بالأدق الذكور)، وفي العيادة النفسية مع الذكور اليائسين المحبطين الضعفاء المستسلمين المنسحبين، أو مع زوجاتهم اللائي يعانين من كل ذلك، ثم ازداد إلحاحها في إبان الحرب السادسة (بين حزب الله وإسرائيل)، حيث كانت تنعقد المقارنات بين شخصيات شتى تتصارع وتصمد وتصبر وتضحي وتصدق أو تتواطأ أو تضرب من الخلف أو تغدر أو تكذب.

 

رجل.. والرجال قليلون

فهذا وجه حسن نصر حين يظهر على الشاشة؛ يعكس صفات غابت من قاموس حياتنا المعاصرة؛ فهو ما زال متمسكا بالصدق والصبر والشجاعة والمقاومة والتضحية (قدم ابنه شهيدا في حرب تحرير الجنوب)، وما زال يحتفظ برأسه مرفوعا أمام تهديدات الدنيا كلها وما زال واثقا من النصر رغم التباين الهائل في ميزان القوى (بضعة صواريخ متواضعة لحزب الله أمام ترسانات إسرائيل وأمريكا العسكرية)، وهو لا يناور ولا يخادع بل يقول ويفعل ويعيد إلى القاموس العربي مفردات الرجولة والكرامة والشرف والترفع.

الشيخ يوسف القرضاوي

وهذا وجه يوسف القرضاوي؛ يقف بنبل ليعلن فتواه المؤيدة والداعية للمقاومة في لبنان بكل قوة ورجولة وصدق، بعيدا عن أي خلافات طائفية أو مراوغات سياسية، ليؤكد لنا -كما يفعل دائما- بقاء نماذج حية للرجولة تعطي الأمل بإحيائها مرة أخرى في عالم عربي مرت به سحابة غبية حجبت عنه قيم الرجولة، حين دفعت إلى الصفوف المتقدمة بنماذج نبذت تلك القيم وسفهتها وراحت تدعو ليل نهار إلى استبعادها من حياتنا الخاصة والعامة، وأصبحت وظيفتها ترويض وتليين وتأنيس وتأنيث من تبقى من الرجال إن استطاعت، وحين تنجح في ذلك تأخذ الثمن رضا من السادة الذين يحرصون على إخصاء وإقصاء كل الرجال في أرض العرب.

الإعلامي حمدي قنديل

وهذا وجه حمدي قنديل؛ يشع رجولة وفروسية ونبلا وصدقا وترفعا وكبرياء، يقف في هذا الزمن ليقول كلمة حق يوقظ بها الضمائر النائمة ويلهب بها ظهور الخانعين والساقطين والمستسلمين والمستضعفين.

وهذا وجه أولمرت وبوش وكونداليزا رايس وبلير، وجوه تشع بالنذالة والتآمر والكذب والمراوغة. وهذه وجوه أخرى في عالمنا العربي تبدو مرتعشة مترددة كاذبة خاطئة وأحيانا كثيرة متآمرة متواطئة، وأحيانا صامتة حائرة ولسان حالهم يقول: اللهم أهلك الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بينهم سالمين (وما دروا أنهم جميعا ظالمون).

وهكذا تتجمع ملاحظات متعددة من مواقف شتى، بعضها عام وبعضها خاص لتشير بشكل متصاعد إلى أن الرجولة في خطر، والرجولة ليست مرادفة للذكورة؛ فالأخيرة لا تعدو كونها نوعا من التركيب التشريحي والفسيولوجي يمكن أن نميزه عن النوع الأنثوي أيضا باختلاف هذا التركيب، أما الرجولة فهي تركيبة نفسية وأخلاقية قد توجد في الذكر (وهو الأغلب) وقد توجد في الأنثى (امرأة برجل أو امرأة بألف رجل).

الرجولة في التراث

وقد حاولت أن أتتبع مدلولات كلمة رجولة في التراث ومن أفواه المعاصرين، فوجدتها تدور حول المعاني التالية: القوة والشجاعة والمروءة والنجدة والرعاية والمسئولية والاحتواء والصبر ونصرة المظلوم والشرف والغيرة على العرض والبذل والاحترام والوفاء والحماية والأنفة والترفع عن توافه الأمور والصدق والتضحية بالمال والنفس والعفة والطهارة والعطاء والكرم والتواضع النبيل وضبط النفس والعدل والكرامة والإنصاف وإغاثة الملهوف والإيثار والعزة والإقدام واحترام الذات والعفو عند المقدرة والتسامح، والبعد عن الدنايا... إلخ.

وحين ننظر من حولنا على المستوى الضيق ونبحث عن هذه الصفات؛ فسوف يعوزنا البحث لأننا سنرى ذكورا كثيرين ورجالا قليلين جدا؛ فهذا زوج ينام في بيته بينما زوجته تعمل ليل نهار لتغطي مصروفات البيت ومصروفاته هو شخصيا؛ فهو يأكل ويشرب من كدها وعرقها، ويمد يده لها آخر النهار ليأخذ مصروفه لكي يقضي ساعات مع أصدقائه على المقهى (أو الكوفي شوب) أو في النادي، ثم يعود آخر الليل ليقضي ما تبقى من الوقت أمام التليفزيون يشاهد الفيديو كليب ويتحسر على حظه العاثر.

وهذا زوج مدمن يدفع بزوجته إلى أحضان أصدقائه ليحصل على احتياجاته من المخدر، وهذا شاب لا يستطيع عمل أي شيء بدون مساعدة أمه، وهذا أخ يقوم بتوصيل رسائل الغرام بين أخته وبين محبيها من الشباب ويكتم سرها عن والديها وعن بقية الأسرة، ثم يبتزها في بعض الأوقات لكي تدفع له ما يريد وإلا فسيفشي هذا السر، وهذا زوج يقضي وقته في مشاهدة التليفزيون أو الجلوس على النت لمشاهدة القنوات الإباحية أو عمل دردشة بينما لا تراه زوجته أو أبناؤه إلا فيما ندر، وهذا موظف يتهرب من القيام بعمله ويتركه لزميلته تقوم هي به.

وهذا مدير يستغل حاجة فتاة من موظفيه فيراودها عن نفسها وإن امتنعت جعل حياتها جحيما، وهذا موظف أدمن الرشوة حتى ذابت كل بقايا العزة والكرامة والشرف لديه وظهرت على وجهه علامات التسول والخسة والنذالة والحقارة، وهذا مسئول أدمن النفاق لرؤسائه ولبس قناعا كاذبا أخفى عنه وعن الناس حقيقة ذاته فصار ظلا لغيره ومطية لكل من يعلوه.

النذل الشعبي

أما إذا توسعنا في النظر؛ فسنجد انسحابا لقيم الرجولة على المستوى المحلي والعالمي، وربما يفسر هذا الاتهامات المتبادلة في الفترة الأخيرة بنقص الرجولة بين القيادات؛ فلم تعد تهم القيم في المواقف، وإنما المهم هو السلامة (بمعناها السلبي الضعيف الانسحابي الهروبي) والمكسب (بمعناه الانتهازي النفعي الأناني) وراحة الدماغ (بمعناها الغبي المتكاسل)، ولسان حالهم يقول كما قال النذل الشعبي: "عش جبانا تمت مستورا"، ويقول: "هي الشتيمة بتلزق"، ويقول: "إحني راسك لحد ما الموجة تعدي"، ويقول: "اللي يتجوز أمي أقول له يا عمي"، ويقول: "أنا عبد المأمور".

وأصحاب هذه المنظومة ينظرون إلى قيم الرجولة باستخفاف ويحاولون التخلص والتملص منها بتسميتها "عنترية كاذبة" أو " ادعاء بطولات زائفة" أو "عدم واقعية " أو "تهور" أو "مغامرة غير محسوبة" أو "قلة عقل" أو "نزق" أو "عدم قراءة للواقع" أو "عدم فهم للمتغيرات الدولية" أو "سذاجة سياسية"... إلخ.

والهدف من ذلك هو تشويه معاني الرجولة أمام أنفسهم حتى تستريح ضمائرهم لقراراتهم ومواقفهم المبتعدة دائما وأبدا عنها، وليقروا واقعا عالميا يتسم بالنذالة والانتهازية وغياب العدل واغتيال الشرعية واستبعاد القانون، ولينعموا في النهاية بالبقاء في كراسيهم وتوريثها لمن كبر من أبنائهم.

وقد نجد مبالغة في المظهر الذكوري لدى كثير من الشباب هذه الأيام؛ ممثلة في اهتمامهم بالذهاب للجيمنزيم (صالة الألعاب الرياضية) لتنمية وتضخيم عضلاتهم، وترى الشاب يمشي في الشارع يلبس "بادي" أو "تي شرت" (قميص ضيق جدا يصف ويشف) لإظهار عضلاته المتضخمة تعويضا عن مواقفه الطفولية العاجزة والتافهة، وفي الوقت الذي تتضخم فيه عضلاته حتى لتكاد تنفجر من ملابسه؛ نجده يأخذ مصروفه من أمه التي تعمل ليل نهار حتى ذبل جسمها وانهارت قواها.

وقد نجد مبالغة من بعض الأزواج (ناقصي الرجولة) في التحكم والسيطرة على زوجاتهم، وقهرهن وسحقهن بدعوى القوامة؛ فهم يفهمون القوامة على أنها استبداد واستعلاء وقهر وتحكم وإلغاء لشخصية الزوجة، والقوامة في الحقيقة ليست كذلك فهي قبل كل شيء رعاية ومسئولية وقيادة حكيمة من رجل يملأ عين زوجته وقلبها ويحميها ويحتويها ويضحي من أجلها ومن أجل أبنائها ويخفف عنها ضغوط الحياة، ويجعلها تنام ملء جفنيها وهي تشعر في رحابه بالأمن والطمأنينة.

وقد نجد نظيرا لذلك على المستوى الدولي؛ حيث تكدس بعض الدول أسلحة كثيرة وتجري استعراضات عسكرية ضخمة، وتخرج كل عام دفعات من طلبة الكليات العسكرية ينعمون بتشريف القادة على أعلى مستوى لتهنئتهم بالتخرج، وتجد مظاهر الإنعام بالنياشين والقلادات وأوسمة الشرف على القادة العسكريين، في حين أن هذا البلد ليس له أي موقف عسكري مشرف أو غير مشرف، ولكنها المبالغة في مظاهر القوة والشرف والشجاعة دون التحلي بها فعلا.

وتجد هذه الدول تخنع وتخضع وتخنث وتنحني وتنبطح وتخفض جناحها أمام دول أكبر، في حين تستبد استبدادا شديدا بشعوبها المستضعفة والمقهورة وتستعرض أمامها كل ألوان القوة والسيطرة (بالضبط كما يفعل الزوج الضعيف المقهور مع زوجته حيث يطأطئ رأسه لمديره المستبد به، ثم بعد ذلك يدوس على رقبة زوجته في المنزل تعويضا وإزاحة).

لماذا تآكلت الرجولة؟

وربما يسأل سائل: ما الذي أدى إلى هذا التآكل الخطير في معاني الرجولة وقيمها على مستوى البيت والشارع وعلى مستوى الدول؟ هل لأننا لم نعد نربي أبناءنا على احترام هذه القيم؟ هل هو الاتجاه العالمي الجديد الذي تقوده أمريكا والذي يسفه كل القيم حيث تنتمي هذه القيم إلى العالم القديم الذي تستعلي عليه أمريكا وتسفهه؟ (يذكر أن الأمريكيين الأوائل الذين شكلوا نواة المجتمع الأمريكي كانوا من الخارجين على المجتمع وعلى القانون ومن المارقين المغامرين، ومن الشخصيات السيكوباتية المضادة للمجتمع، والنفعية الانتهازية الباحثة عن اللذة دائما دون اعتبار لأي قيمة أو قانون).

هل هو الاستبداد السياسي الذي قهر الرجل وأذله فتعلم الناس مع الوقت أن يخففوا رجولتهم أو يتخلصوا منها خوفا من الخصاء على يد السلطات الفرعونية التي قررت أن تقتل (أو تخصي) كل رجل يوجد في البلاد حتى لا يهدد الاستقرار؟ هل هي طريقة التربية التي تولتها الأمهات غالبا نظرًا لسفر الأب أو انشغاله في عمله أو مع أصدقائه أو أمام التليفزيون والنت؟.

هل هو الزحف الأنثوي على جوانب الحياة المختلفة والانتقال من مرحلة تحرير المرأة إلى مرحلة تمكين المرأة؛ وهو ما أدى إلى انسحاب الرجل من كثير من مواقعه كيدا أو عنادا أو مقاومة سلبية ردا على تهديد عقدة التفوق الذكوري لديه؟.

هل هي فلسفة الشره الاستهلاكي الاستمتاعي السائدة التي لا تهتم بالقيم قدر اهتمامها بقدر اللذة الحاصلة أو المتوقعة من أي فعل؟ هل هي أنظمة سياسية وقيادات إعلامية ودينية بعينها تدعو ليل نهار لقيم هي أبعد ما تكون عن قيم الرجولة، ووجدت هذه الدعوة صدى لدى الناس لما تمنحهم من راحة التخلي والسلبية والاستمتاع المتوهم بمكاسب الحياة ورفاهيتها بعيدا عن الدخول في صراعات تستجلبها المواقف أو القرارات ذات السمت الرجولي؟.

هل هي البرجماتية، ذلك المذهب العالمي الجديد الذي يضع المكاسب والمنافع فوق كل القيم بل إنه على استعداد لإلغاء كل شيء أمام تحقيق مكاسبه الأنانية الشخصية؟.

قد نختلف أو نتفق في الأسباب، ولكن تبقى حقيقة مؤكدة وواضحة لأي متخصص أو غير متخصص وهي أن "الرجولة في خطر".

 

إسلام أون لاين

JoomShaper