إعداد: أيمن محمود
فاعترضته امرأة الشيخ وقالت: وهل بأس بالدار إذا وُسِّعت حدودها من ضيق؟ أتكون الدار في هذا إلى نقصها أو تمامها؟
قال أبو معاوية: فكدت أنقطع في يدها، وأحببت أن أمضي في استمالتها، فتركتها هنيهة ظافرة بي، وأريتها أنها شدتني وثاقًا، وأطرقت كالمفكر؛ ثم قلت لها: إنما أحدثك عن أم معاوية لأبي معاوية؛ وتلك دار لا تملك غير أحجارها وأرضها فبأي شىء تتسع؟
زعموا أنه كان رجلٌ عاملٌ دويرة قد التصقت بها مساكن جيرانه، وكانت له زوجة حمقاء، ما تزال ضيقة النفس بالدار وصِغَرها، كأن في البناء بناء حول قلبها: وكانا فقيرين، كأم معاوية وأبي معاوية؛ فقالت له يومًا: أيها الرجل، ألا توسع دارك هذه، ليعلم الناس أنك أيسرت وذهب عنك الضُّر والفقر؟ قال: فبماذا أوسعها وما أملك شيئًا، أأمسك بيميني حائطًا وبشمالي حائطًا فأمدهما أباعد بينهما...؟ وهبيني ملكت التوسعة ونفقتها، فكيف لي بدور الجيران وهي ملاصقة لنا بيت ببيت؟
قالت الحمقاء: فإننا لا نريد إلا أن يتعالم الناس أننا أيسرنا؛ فاهدم أنت الدار، فإنهم سيقولون: لولا أنهم وجدوا واتسعوا وأصبح المال في يدهم لما هدموا...!
قال أبو معاوية: وغاظتني زوجة الشيخ فلم أسمع لها همسة من الضحك لمَثَل الحمقاء، وما اخترعته إلا من أجلها، تريد أن يذهب عملي باطلاً؛ فقلت: وهل تتسع أم معاوية من فقرها إلا كما اتسع ذلك الأعرابي في صلاحه؟
قلت: دخل علينا المسجد يومًا أعرابي جاء من البادية، وقام يصلي فاطال القيام والناس يرمقونه، ثم جعلوا يتعجبون منه، ثم رفعوا أصواتهم يمدحونه ويصفونه بالصلاح؛ فقطع الأعرابي صلاته وقال لهم: مع هذا إني صائم...
قال أبومعاوية: فما تمالَكَتْ أنْ ضحِكتْ، وسمعتُ صوت نفسها، وميزت فيه الرضى مقبلاً على الصلح الذي أتسبب له. ثم قلت:
وإذا ضاقت الدار فلِمَ لا تتسع النفس التي فيها؟ المرأة وحدها هي الجو الإنساني لدار زوجها، فواحدة تدخل الدار فتجعل فيها الروضة ناضرة متروحة باسمة، وإن كانت الدار قحطة مسحوتة ليس فيها كبير شىء؛ وامرأة تدخل الدار فتجعل مثل الصحراء برمالها وقيظها وعواصفها، وإن كانت الدار في رياشها ومتاعها كالجنة السندسية؛ وواحدة تجعل الدار هي القبر!!
والمرأة حق المرأة هي التي تترك قلبها في جميع أحواله على طبيعته الإنسانية، فلا تجعل هذا القلب لزوجها من جنس ما هي فيه من عيشة: مرةً ذهبًا، ومرة فضة، ومرة نحاسًا أو خشبًا أو ترابًا، فإنما تكون المرأة مع رجُلِها من أجله ومن أجل الأمة معًا؛ فعليها حقان لا حق واحد، أصغرها كبير. ومن ثم فقد وجب عليها إذا تزوجت أن تستشعر الذات الكبيرة مع ذاتها، فإن أغضبها الرجل بهفوة منه، تجافت له عنها، وصَفَحَتْ من أجل نظام الجماعة الكبرى؛ وعليها أن تحكم حينئذ بطبيعة الأمَّة لا بطبيعة نفسِها، وهي طبيعة تأبى التفرق والانفراد، وتقوم على الواجب، وتضاعف هذا الواجب على المرأة بخاصة.
والإسلام يضع الأمَّة ممثلة في النسل بين كل رجل وامرأته، ويوجب هذا المعني إيجابًا، ليكون في الرجل وامرأته شىء غير الذكورة والأنوثة، ويجمعهما ويقيد أحدهما الآخر، ويضع في بهيميّتهما التي من طبيعتها أن تتفق وتختلف، إنسانية من طبيعتها أن تتفق ولا تختلف.
ومتى كان الدين بين كل زوج وزوجته، فمهما اختلفا وتدابرا وتعقدت نفساهما، فإن كل عقدة لا تجىء إلا ومعها طريقة حلها، ولن يُشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلَبَه، وهو اليسر والمساهلة، والرحمة والمغفرة، ولين القلب وخشية الله؛ وهو العهد والوفاء، والكرم والمؤاخاة والإنسانية؛ وهو اتساع الذات وارتفاعها فوق كل ما تكون به منحطة أو ضيقة.
قال أبو معاوية: فحق الرجل المسلم على امرأته المسلمة، هو حق من الله، ثم من الأمة، ثم من الرجل نفسِه، ثم من لطف المرأة وكرمها، ثم مما بينهما معًا. وليس عجيبًا بعد هذا ما رُوينا عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد، لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن، لِما جعل الله لهم عليهن من الحق".
وهذه عائشة أم المؤمنين قالت: يا معشر النساء، لو تعلمْنَ بحق أزواجكن عليكن، لجعلتْ المرأة منكن تمسح الغبار عن قدمي زوجها بِحُرِّ وجهها.
* * *
قال أبو معاوية: وكان الشيخ قد استبطأني وقد تركته في فناء الدار، وكنت زورت في نفسي كلامًا طويلاً عن فروته الحقيرة التي يلبسها، فيكون فيها من بذاذة الهيئة كالأجير الذي يجد من يستأجره، فظهر الجوع حتى على ثيابه... وقد مر بالشيخ رجل من المُسَوِّدة (هم شيعة العباسيين للباسهم السواد) وكان الشيخ في فروته هذه جالسًا في موضع فيه خليج من المطر، فجاءه المسوّد فقال: قم فاعبر بي هذا الخليج، وجذبه بيده فأقامه وركبَّه والشيخ يضحك.
وكنت أريد أن أقول لأم محمد: إن الصحو في السماء لا يكون فقرًا في السماء، وإن فروة الشيخ تعرف الشيخ أكثر من زوجته، وإن المؤمن في لذات الدنيا، كالرجل الذي يضع قدميه في الطين ليمشي، أكبرُ همّهِ ألا يجاوز الطينُ قدميه.
ولكن صوت الشيخ ارتفع: هل عليكم من إذن؟
قال أبو معاوية: فبَدْرتُ وقلت: بسم الله ادخل؛ كأني أنا الزوجة... وسمعت همسًا من الضحك؛ ودخل ابو محمد إلى جانبي، وغمزني في ظهري غمزة؛ فقلت: يا أم محمد إن شيخك في ورعه وزهده لَيُشبِعُهُ ما يُشبِعُ الهدهد، ويُرويه ما يُروي العصفور، ولئن كان متهدمًا فإنه جبل علم، "ولا تنظري إلى عمش عينيه، وحموشة ساقيه، فإنه إمام وله قَدْر".
فصاح الشيخ: قم أخزاك الله، ما أردتَ إلا أن تعرّفها عيوبي!
قال أبو معاوية: ولكني لم أقم، بل قامت زوجة الشيخ فقبلت يده...
انتهى.
من وحي القلم - للأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي