إعداد/ أيمن محمود
وطُرِقَ الباب، فذهب الشيخ يفتح، فإذا الطارق (عبد الله بن أبي وداعة)؛ وكان يجالسه ويأخذ عنه ويلزمُ حلْقته، ولكنه فقده أيامًا؛ فدخل فجلس. قال الشيخ: "أين كنت؟"
قال: "تُوفِّيَتْ أهلي فاشتغلتُ بها".
قال الشيخ: "هلا أخبرتنا فشهدناها". ثم أخذ يُفيضُ في الكلام عن الدنيا والآخرة؛ وشعر ابن أبي وداعة أن القبر ما يزال في قلبه حتى في مجلس الشيخ، فأراد أن يقوم، فقال (سعيد):


"هل استحدثت امرأةً غيرها؟"

قال: "يرحمْك الله، أين نحن من الدنيا اليوم، ومن يزوّجُني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟"

قال الشيخ: "أنا..."

أنا، أنا، أنا... دوَّى الجوُّ بهذه الكلمة في أُذُن طالب العلم الفقير، فحسب كأنَّ الملائكة تنشد نشيدًا في تسبيح الله يَطِنُّ لحنه:

"أنا، أنا، أنا..."

وخرجت الكلمة من فم الشيخ ومن السماء لهذا المسكين في وقت واحد، وكأنها كلمةٌ زوَّجَتْهُ إحدى الحور العين.

فلما أفاق من غشيةِ أذنه.. قال: "وتفعل؟"

قال (سعيد): "نعم" وفسَّرَ (نعم) بأحسن تفسير وأبلغِه؛ فقال: قم فادع لي نفرًا من الأنصار فلما جاءوا حمد الله وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وزوَّجَهُ على ثلاثة دراهم (خمسة عشر قرشًا).

ثلاثة دراهم مهرُ الزوجة التي أرسل يخطبها الخليفة العظيم لولي عهده بثقلِها ذهبًا لو شاءت.

وغشَّى الفرح هذه المرة عيني الرجل وأذنيه، فإذا هو يسمع نشيد الملائكة يطنُّ لحنه: "أنا، أنا، أنا..."

ولم يشعر أنه على الأرض، فقام يطير، وليس يدري من فرحه ما يصنع، وكأنه في يوم جاءه من غير هذه الدنيا يتعرف إليها بهذا الصوت الذي لا يزال يطنُّ في أذنيه "أنا، أنا، أنا..."

وصار إلى منزله وجعل يفكر: ممن يأخذ، ممن يستدين؟ فظهرت له الأرض خلاء من الإنسان، وليس فيها إلا الرجل الواحد الذي يضطرب صوته في أذنيه: "أنا، أنا، أنا..."

وصلى المغرب وكان صائمًا، ثم قام فأسرج، فإذا سراجه الخافت الضئيل يسطع لعينيه سطوع القمر، وكأنَّ في نوره وجهَ عروس تقول له: "أنا، أنا، أنا..."

وقدَّم عشاءَهُ ليُفطِر، وكان خبزًا وزيتًا، فإذا الباب يقرع؛

قال: من هذا؟ قال الطارق: سعيد....

سعيد؟ سعيد! مَنْ سعيد؟ أهو أبو عثمان؛ أبو علي؛ أبوالحسن؟ فكَّر الرجل في كلِّ من اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب؛

إلا الذي قال له: "أنا..."

لم يخالجه أن يكونَ هو الطارق، فإنَّ هذا الإمام لم يطرق باب أحدٍ قطّ، ولم يُرَ منذ أربعين سنة إلا بين داره والمسجد.

ثم خرج إليه، فإذا به سعيد بن المسيب، فلم تأخذه عينه حتى رجع القبرُ فهبط فجأة بظلامه وأمواته في قلب المسكين، وظنَّ أنَّ قد بدا له، فندم، فجاءه للطلاق قبل أن يشيع الخبر، ويتعذر إصلاح الغلطة!

فقال: "يا أبا محمد، لو... لو.. لو ــ لو أرسْلتَ إليَّ لأتيتُك!"

قال الشيخ: "لأنت أحقُّ أنْ تُؤْتى".

فما صكَّتِ الكلمة سمع المسكين حتى أبلَسَ( اختفى) الوجود في نظره، وغشَّى الدنيا صمتٌ كصمت الموت، وأحسّ كأنَّ القبر يتمدد في قلبه بعروق الأرض كلها! ثم فاء لنفسه، وقدَّر أنْ ليس محلُّ شيخِهِ إلا أنْ يأمر، وليس محلُّهُ هو إلا أنْ يطيع، وأنَّ من الرجولةِ ألا يكون معرَّةً على الرجولة، ثم نَكَس وتنكَّس وقال بِذِلَّةٍ ومسكنة: "ما تأمُرني؟"

تفتحت السماء مرة ثالثة، وقال الشيخ: "إنك كنت رجلاً عزبًا، فتزوجتَ، فكرهتُ أن تبيتَ الليلة وحدك؛ وهذه امرأتُك!"

وانحرف شيئًا، فإذا العروسُ قائمةٌ خلفَه مستترةُ به، ودفعها إلى الباب وسلَّمَ وانصرف.

وانبعث الوجود فجأة، وطنَّ لحن الملائكة في أذن أبي وداعة:

"أنا، أنا، أنا..."

* * *

دخلت العروس الباب وسقطت من الحياء، فتركها الرجل مكانها، واستوثق من بابه، ثم خطا إلى القصعة التي فيها الخبز والزيت، فوضعها في ظل السراج كي لا تراها؛ وأغمض السراج عينه ونشر الظل...

ثم صعد إلى السطح ورمى الجيران بحُصَيَّات؛ ليعلموا أنَّ له شأنًا اعتراه، وأنْ قد وَجَبَ حق الجار على الجار (وكانت الحُصيَّات يومئذ كأجراس التليفون اليوم) فجاءوه على سُطوحِهِم وقالوا: "ما شأنُك؟"

قال: "ويحكم! زوَّجَني سعيد بن المسيَّب ابنته اليوم؛ وقد جاء بها الليلة على غفلة".

قالوا: "وسعيد زَوَّجَك! أهو سعيد الذي زَوَّجَك! أزَوَّجَك سعيد؟"

قال: "نعم".

قالوا: "وهي في الدار؟ أتقول إنها في الدار؟"

قال: "نعم".

فانثال النساء عليه من هنا وهاهنا حتى امتلأت بهنَّ الدار. وغشَيت الرجل غشية أخرى، فحسب داره تتيه على قصر عبد الملك بن مروان، وكأنما يسمعها تقول: "أنا، أنا، أنا..."

* * *

قال عبد الله بن أبي وداعة: "ثم دخلتُ بها، فإذا هي من أجمل الناس وأحْفَظِهِمْ لكتاب الله تعالى، وأعْلَمِهِم بسُنَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعْرَفِهِمْ بحق الزوج. لقد كانتِ المسألةُ المعضِلةُ تُعيي الفقهاء فأسألُها عنها فأجدُ عندها منها عِلْمًا".

قال: ومكثتُ شهرًا لا يأتيني سعيد ولا آتيه، فلما كان بعد الشهر أتْيتُهُ وهو في حلقتِهِ فسلّمْتُ، فرد عليّ السلام، ولم يكلمْني حتى تفرَّقَ الناسُ من المجلس وخلا وجهه، فنظر إليّ وقال:

"ما حالُ ذلك الإنسان...؟".

* * *

أما ذلك (الإنسان) فلم يعرفْ مِنَ الفرقِ بين قصر وليّ العهد ابن أميرِ المؤمنين، وبين حجرةِ ابن أبي وداعة التي تُسَمَّى دارًا...! إلا أنَّ هناك مضاعفةَ الهمّ، وهنا مضاعفةَ الحُبّ.

وما بين (هناك) إلى القبر مدة الحياة ــ سَتَخْفِتُ الروح من نور بعد نور، إلى أن تنطفئ في السماء من فضائِلها.

وما بين (هنا) إلى القبر مدة الحياة ــ تسطعُ الروح بنور على نور، إلى أنْ تشتعل في السماء بفضائِلها.

وما عند أمير المؤمنين لا يبقى، وما عند الله خيرٌ وأبقى.

* * *

 


ولم يزلْ عبد الملك يحتال (لسعيد) ويَرْصُدُ غوائلَهُ(سقطاته) حتى وقعت به المحنة، فضربَهُ عاملُهُ على المدينة خمسين سوطًا في يومٍ بارد، وصبَّ عليه جرةَ ماء، وعرَضَهُ على السيف، وطاف به الأسواق عاريًا في تُبَّان(سروال قصير) من الشَعر، ومنع الناسَ أن يجالسوه أو يخاطبوه. وبهذه الوقاحة، وبهذه الرذيلة، وبهذه المَخْزاة، قال عبد الملك: "أنا...؟"

انتهى

 

من وحي القلم - للأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي

JoomShaper