يعمل المهندس الزراعي عيد العيسى بعد تقاعده وسفر أغلب أولاده إلى أوروبا، على زراعة شتول الخضروات بالقرب من خيمته في منطقة عرب سعيد غربي إدلب، وتوزيعها بشكل مجاني على المزارعين الأشد ضعفًا، حيث قام بتوزيع أكثر من مليوني شتلة من الفليفلة والبندورة والخيار والباذنجان والكوسا وغيره.
ويتنقل العيسى بين شتول الخضروات والورود التي زرعها مؤخرًا، يتفقدها بعناية ويراقب نموها، ويخرج الحشرات الضارّة منها، ليقوم بتجهيزها وتوزيعها على الفلاحين الأشد فقرًا في منطقة شمال غربي سوريا.


بداية الفكرة
في حديث خاص مع “نون بوست”، قال عيد العيسى إن الفلاح في إدلب وعموم مناطق شمال غربي سوريا، عانى على مدار عمر الثورة السورية من صعوبات وتحديات كبيرة أرهقته وأرهقت القطاع الزراعي ككُلّ، فنظرًا إلى حاجة الفلاح وضعف قدرته المادية، وعدم قدرته على توفير البذور والشتول بسبب تردّي الأوضاع الاقتصادية في شمال غرب سوريا، أطلقَ هذه المبادرة.
“أزرع الشتول بالقرب من خيمتي، أضعها ضمن صناديق من الفلّين، لأقوم بتوزيعها على الفلاحين ممّن هم بحاجة المساعدة في محافظة إدلب ومنطقة عفرين غربي حلب، بعد أن أرهقتهم تكاليف الزراعة على مدار عقد من الزمن”، يقول العيسى.
يحمل عيد العيسى إجازة في الهندسة الزراعية من جامعة حلب عام 1981، وهو مهجّر منذ 6 سنوات من قرية رأس العين بريف إدلب الشرقي إلى قرية عرب سعيد غربي إدلب، حيث يجمع بين مهنة الزراعة والعمل المكتبي، فقد شغل منصب نقيب المهندسين الزراعيين فرع إدلب، وينحدر من بيئة ريفية تمتهن الزراعة وتربية المواشي.
إحياء الأمل للفلاح
وأرجع العيسى الدافع الأساسي من المبادرة وفق ما قال لـ”نون بوست”، إلى دعم ومساعدة الفلاحين الفقراء غير القادرين على شراء البذور والشتول، محاولًا خلق فرص عمل لهم، وتأمين مورد رزق يكفيهم ويسدّ احتياجاتهم، بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية في منطقة شمال غرب سوريا.
إضافة إلى “انتقاء بذور ذات جودة صنفية عالية من الإنتاج المحلي في شمال غربي سوريا، والتي تتميز بالجودة والإنتاج الجيد والمقاومة العالية للأمراض، والقدرة على تحمل الجفاف وتقلبات المناخ”.
كما يعمل العيسى من خلال مبادرته على إحياء الأمل لدى الفلاح، بتشجيعه على الاستمرار بمهنة الزراعة التي يتقنها منذ الصغر، وعدم ترك الأراضي الزراعية بورًا، نظرًا إلى الحاجة الماسّة لاستثمارها، وعدم الاعتماد على استيراد الخضروات غالية الثمن وذات الجودة الرديئة، والتي لا تتمتّع بالنكهة التي تتمتّع بها الخضروات المحلية، على حد وصفه.
هذا وألقت ظروف الحرب على مدار عقد من الزمن بكاهلها على السوريين، لا سيما القاطنين في شمال غربي سوريا، والذين هُجّروا من مختلف المحافظات السورية، فقد انحسرت المساحات الزراعية لصالح قوات النظام، خصوصًا بعد العملية العسكرية التي أطلقها بمساندة الميليشيات الإيرانية وسلاح الجو الروسي أواخر عام 2019، والتي سيطر بموجبها على مساحات زراعية واسعة.
تفاصيل المبادرة
مبادرة العيسى مستمرة منذ 3 سنوات، حيث وزّع منذ مطلع عام 2024 نحو 600 ألف شتلة من الشتول الشتوية، كالخس والفجل والهندباء والسلق والسبانخ، يتم توزيعها للناس الأكثر ضعفًا في المخيمات، بمعدل 300 شتلة للعائلة الواحدة.
وأضاف العيسى: “أقوم بانتقاء أفضل أصناف البذور الصيفية والشتوية، وبإمكانات بسيطة يساعدني عدد من الفلاحين المتطوعين، وبعد الرغبة الشديدة من الفلاحين بأخذ البذور وزراعتها كونها دون مقابل، تجاوز رقم الشتلات الموزّعة المليوني شتلة، والذي جاء بعد إثبات جودة البذور وصدق المبادرة وزيادة إقبال الفلاحين عليها”.
يوزّع العيسى الذي يقطن في خيمة المواد إما على شكل بذور وإما شتول مجانًا على الفلاحين الأكثر ضعفًا، يختارهم بالتعاون مع معارفه في أرياف إدلب خصوصًا في المخيمات، وشملت الشتول الموزعة الخيار والبندورة والفليفلة والفاصولياء والخس والباذنجان والبازلاء والفجل والسلق والسبانخ.
لاقت مبادرة أبو زهير استحسانًا من الفلاحين والعاملين في القطاع الزراعي على حدّ سواء، ما ساهم في تنشيط عجلة الزراعة إلى الأمام، وتشجيع باقي المهندسين على إطلاق مبادرات مشابهة.
وقال محمد دياب الذي استفاد لأكثر من مرة من شتول المهندس عيد: “إننا نأخذ الشتول مجانًا، ومن خلال التجربة وجدنا أن الشتول ذات أصناف جيدة ومقاومة للأمراض ولا نحتاج للمبيدات الحشرية بكثرة، فنأخذ منه كل سنة 10 آلاف شتلة من البندورة والباذنجان والفليفلة، وهو حال كثير من الفلاحين ممّن أعرفهم، فقد وفّر العيسى لهم تكلفة البذور والشتول، بالإضافة إلى نصائحه التي تساعدنا في تحسين الإنتاج”.
من جانبه، علق المهندس الزراعي موسى البكر على المبادرة، أنه من شأنها الدفع بعجلة الزراعة إلى الأمام في شمال غرب سوريا، منوّهًا إلى ضرورة انتشار هذه الثقافة والعمل على دعمها من أجل الاستمرار والنجاح، الأمر الذي سينعكس إيجابًا على قطاع الزراعة.
ونبّه أن مبادرة عيد العيسى محدَّدة في قطاع معيّن، وأن المساحات الصالحة للزراعة في المنطقة باتت ضيّقة بعد تقلُّصها على حساب العمران وانتشار المخيمات، فمن الضروري وفق ما قال لـ”نون بوست” أن تُزرع الأرض بأكثر من موسم على مدار العام، من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي، وتنويع المزروعات من أجل تحسين التربة.
مبادرات زراعية
وفي السياق ذاته أطلقت “منظمة دور” العاملة في الشمال السوري مؤخرًا مبادرة “فرصتي”، ضمن مشروع أصوات شابة بالتعاون مع منظمة شباب التغيير، والتي جاءت لتمكين المجتمع المحلي ودعم الكوادر المحلية، لتحقيق التنمية الاقتصادية بمدينة جنديرس شمال غربي حلب.
وبحسب مدير مكتب منظمة دور في الشمال السوري، زهير رحال، فإن مبادرة “فرصتي” تقدّم قروضًا مستردة، وهي عبارة عن مساهمة جديدة لتحسين الحياة الاقتصادية بمدينة جنديرس، بعد تضررها الكبير من زلزال 6 فبراير/ شباط في العام الماضي.
وعن تفاصيل المبادرة، قال رحّال لـ”نون بوست” إن المبادرة تعمل على شقَّين، شقّ مجتمعي وشقّ اقتصادي، من خلال العمل على تحسين الوصول إلى تنمية مستدامة، وتعزيز العمل التشاركي الذي يرتكز بشكل رئيسي على الموارد المحلية، لتعزيز الاقتصاد المحلي، من خلال التحول من الاتّكالية إلى الإنتاج، عبر خطة تمويل فرص عمل لائقة، وتوفير قروض حسنة لدعم المشاريع الصغيرة، خاصة الزراعية منها، والتي تشتهر فيها منطقة جنديرس.
آلية العمل
ممثل شباب التغيير في مبادرة “فرصتي”، ميسرة عسكر، قال لـ”نون بوست” إن المبادرة تركز على دعم أصحاب الأفكار للمشاريع، ممّن لا يملكون تمويلًا ماديًّا، حيث قمنا في المشروع بجنديرس بتقديم قروض صغيرة دون أي فائدة، ويتم استردادها عن طريق أقساط صغيرة من خلال دورة مالية لمدة سنة.
فيما أطلقت منظمة إنسان العاملة في منطقة شمال غربي سوريا مؤخرًا، مشروعًا يستهدف المزارعين للمساهمة في تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، وتحسين القطاع الزراعي في المنطقة.
وبحسب القائمين على المشروع، فإنه يشجّع المزارعين ويساعدهم على الزراعة في ظل تحديات كبيرة واجهت المزارعين في السنوات الماضية، وما زالت تواجههم، منها ارتفاع أسعار المستلزمات الزراعية بالمقارنة مع أسعار القمح، وعدم توفر مصادر كافية للريّ.
واستهدف المشروع ما يقارب 4 آلاف مزارع في منطقة إدلب، وتمّ التركيز على المزارعين الفقراء الذين لديهم مساحة صغيرة من الأرض من 5 إلى 10 دونمات تقريبًا، إضافة إلى أن المشروع قدّم كل ما يحتاجه المزارع من بذور وأسمدة بأنواعها ومبيدات بأنواعها أيضًا، وسيقدم قسيمة للحصاد.
وتعرّض قطاع الزراعة لخسارة كبيرة طيلة سنوات الحرب في سوريا، كما انحسرت المساحات الصالحة للزراعة لصالح قوات النظام، بعد حملته العسكرية الأخيرة على المنطقة أواخر عام 2019، التي تتقلص أساسًا نتيجة المدّ العمراني.
هذا ناهيك عن ارتفاع كلف الزراعة من ارتفاع أسعار البذور والأسمدة والمبيدات الحشرية، وبحسب تقديرات عام 2010 تشكّل الزراعة 17.6% من الناتج المحلي الإجمالي لسوريا، التي تبلغ مساحتها 18.5 مليون هكتار، منها 6.5 ملايين هكتار كمساحة قابلة للزراعة والغابات.
ويعيش قرابة 4.5 ملايين نسمة في مناطق شمال غرب سوريا، وفيها قرابة 1400 مخيم عشوائي، يفتقدون إلى مختلف المساعدات الإنسانية التي تراجعت بنسبة كبيرة في السنوات الأخيرة، نتيجة انخفاض التمويل من قبل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي.

JoomShaper