المستقبل
أسفرت المفاوضات التي أُجريت ما بين الحكومة السورية، والمعارضة المسلحة، ووسطاء دوليين من تركيا وقطر ولبنان وفلسطين، منتصف شهر تشرين الأول، بحضور قائد لواء التوحيد عبد القادر صالح، عن الاتفاق على إطلاق اللبنانيين التسعة المحتجزين في إعزاز منذ مايو/أيار 2012، مقابل الإفراج عن 111 معتقلة و 212 معتقلا من السوريين في سجون النظام، وعن إطلاق الطياريّن التركييّن المحتجزيّن في لبنان منذ أغسطس/آب الماضي. ذلك حسب بيان نشره لواء "عاصفة الشمال"، أوضح فيه أنه كان من المفترض أن تتم عملية التبادل على مرحلتين، تشهد المرحلة الأولى الإفراج عن المعتقلات السوريات والطياريّن التركيين، لقاء ثلاثة من اللبنانين المحتجزين، على أن يُستكمل التبادل في المرحلة الثانية، لكن التنظيم اضطر لتسريع العملية، وإطلاق اللبنانيين التسعة دفعة واحدة، بسبب سيطرة ما يُعرف بالدولة الإسلامية في العراق والشام على مقاره في إعزاز.
ومهما تكن الحيثيات الخافية والمعلنة، فقد تم مساء التاسع عشر من تشرين الأول الإفراج عن اللبنانيين والأتراك، بينما أُرجئ أمر المعّتقلات والمعتقلين إلى الثالث والعشرين، حيث أُطلق سراح ثلاث عشرة سجينة فقط، منهن ميرفت الحموي، المريضة بالسرطان، والتي قُتل زوجها في المعارك، وبعدها بيوم، أي الخميس، تم الإفراج عن دفعة ثانية، ليصل عدد السجينات المحرّرات إلى ثمان وأربعين معتقلة، حسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، وهو يوم كتابة هذه السطور، وفيه تناقلت صفحات الفيسبوك خبر الإفراج عن المدوّنة الشهيرة طلّ الملوحي.
تابعتُ باهتمام أخبار المفاوضات وعمليات الإفراج والتبادل، ولفتني كثيرا تضارب المعلومات، فيما يخص قضية المعتقلات على صفحات الشبكة العنكبوتية. تضاربٌ بدأ من تحديد عدد السجينات اللاتي ينبغي الإفراج عنهن، ثم العدد الفعلي للاتي أُطلق سراحهّن، إلى مصير الباقيات في ذمة المعتقل، فحسب بيان لواء "عاصفة الشمال" كان ينبغي الإفراج عن 111 معتقلة، بينما ذكرت مصادر في المعارضة أن الاتفاق شمل 125 سجينة و12 جثة لمعارضات سوريات لدى النظام، في حين أفاد "المركز الإعلامي السوري" أن اللائحة تضم أسماء 128 إمرأة، أما أرقام المفرج عنهّن في الدفعة الأولى فقد تراوحت بين 11، 13، أو 14 سجينة، وهو لبس يثير الكثير من الأسئلة، حول طبيعة التعامل مع مسألة سجينات الرأي السوريات، بعد ثلاثة أعوام من قيام الثورة.
بغض النظر عن تباين الأرقام وأسبابه، فحتى يوم الخميس تم الإفراج عن أقل من نصف عدد السجينات، المتفق عليه في أقل تقدير، وعلى افتراض انه سيتم الإفراج عن البقية، فهنّ نسبة ضئيلة جدا من العدد الإجمالي للمعتقلات السوريات البالغ خمسة آلاف ناشطة، وأربع وعشرين قتيلة تحت التعذيب، معظمهّن من الشابات في العشرينات من أعمارهنّ، وبعضهنّ متقدّمات في السن، والأخريات فتيات، تعرضّن للتعذيب والاغتصاب، ويقّبعّن في أسوأ الظروف، ليس لجريمة اقترفّنها، أو لحملهّن السلاح، وليس لانتسابهّن إلى تنظيمات سرية محظورة، كما هي حال سجينات سوريا السابقات، بل فقط لاشتراكهنّ في التظاهرات السلمية، أو نشاطهنّ في مجال الإغاثة الإنسانية، وإسعاف المصابين.
وما إن تكتب "المعتقلات السوريات" في مربع البحث على موقع "غوغول"، حتى تصّفعك روايات بعضهّن، ممن قٌيّض لهّن النجاة والعودة ثانية إلى الحياة، سوف يقّشعر بدنك، تتعب، تبكي وتلاحقك الكوابيس، وأنت تقرأ وتتخيّل ظروف الاعتقال، سوء المعاملة وأساليب التعذيب، فكيف يكون حال الداخلات في جحيم التجربة؟ وإن حدث وشُفيت أجسادهّن المنتهكة، هل تبرأ جراح أرواحهّن في يوم من الأيام؟ وتحضرني كلمات الماغوط: "أيها السوّط المجّرم، ماذا فعلت بأمتي".
تقارير تقطع الأنفاس، تدمي القلب، وتملأ صفحات الويب بأسماء مستعارة، أو دونما ذكر لأسماء الضحايا، فأغلب المنكوبات مضطرّات لابتلاع الأذى، والصمت عن الجريمة، يرفضّن الحديث عن هول ما عانوه، أو يتنصلّن من شهادتهّن بعد الإدلاء بها، خشية النظام الحاكم، ومراعاة للأعراف الاجتماعية، وكأن وصمة العار تقع عليهن، لا على الجاني!
يصف تقرير نشرته عابدة المؤيد العظم، مراحل الاعتقال وظروفه، على لسان بعض سجينات الثورة السورية، ممن لم يرغبن بورود أسمائهن، ونقرأ: "رجال الأمن لا يمتلكون أي مشاعر إنسانية، ولا يعرفون ما هي الرحمة... يأتون إلى البيت فجأة، ويختارون وقت النوم والراحة، يحاصرون البناء، ويدخلون الدار كالإعصار، يتكلمون بألفاظ بشعة ولهجة مقزّزة، يفتشون البيت، وقد يقلبونه، ويفسدون متاعه، ويهينون ساكنيه، ثم يسحبون البنت بكل وحشية إلى سياراتهم، ويمضون إلى المجهول يلقونها في "المنفردة"، يوصدون الباب ويرحلون... و"المنفردة" غرفة طولها متر، وعرضها نصف المتر، بابها سميك كالجدار، لها فتحة صغيرة في السقف، هي وسيلة الاتصال الوحيدة بين الفتاة وبين جلادها".
"تقبع المعتقلة وحدها خلف الباب الموصد، تحاول معرفة الليل من النهار، والصيف من الشتاء، تقف على رؤوس أصابعها، لعلها تشعر بنسمة المساء، أو بدفء الشمس، ليس في المنفردة إلا بطانية شتوية، تنام عليها، كأنها تنام على الأرض الجرداء، ولا تستطيع فرد ساقيها لقصر المسافة، فتتكوّر على نفسها حتى ييبس جسمها، تُمضي الأيام والليالي وحدها مع الحشرات، وأحياناً مع جرذ أو أكثر يتجول هنا وهناك، وكم توقظها الصراصير التي تستوطن المكان، وهي تمشي على وجهها أو يديها".
"في غرفة التحقيق يستفردون بها، كلهم أعداء ووحوش آدمية، وهي بين يديهم وحيدة، ضعيفة، يضربونها على وجهها، يصفعونها بقسوة، يدفعونها بغلظة، فتقع أرضاً، يدعسون عليها، يركلونها مثل الكرة، يرفسها كل داخل إلى الغرفة، وكل خارج منها، وكيف يحتمل جسد فتاة نحيلة، لا يزيد وزنها عن 49 كغ، ركلات بوط عسكري محصّن، لا يقل مقاسه عن 43، أو ثقل شخص يقف عليه، يضحك ويضغط، وقد يفوق وزنه المئة كلغ؟!
وفي التقرير، تقول الصبية: "كنت أضع جهاز تقويم على أسناني، ومع كل كف يضربوه على وجهي، تخرج نافورات الدم من مناطق مختلفة في لثتي، وتكثر الجراح في فمي وتلتهب، ولا يكترثون، بل يزيدون في عذابي، ويتحسسون جروحي، ويتقصدون المكان الحساس المؤلم، ليتابعوا الضرب عليه، لم أكن أرتضي البكاء، وأراه ضعفاً، لكني بكيت، وبكيت كثيراً عذبوني، وضربوني بأسلاك الكهرباء، حتى ما عدت أستطيع الوقوف على رجليّ، وآثار التعذيب تبقى، وتتجدد في سجونهم كل يوم، ولما أرادوا الإفراج عني (بعد أشهر من الاعتقال) وجدوني عاجزة، لا أستطيع الوقوف على قدمي من الألم والجراح والإعياء، فتركوني مدة إضافية، حتى استطعت المشي بصعوبة وبعرجة واضحة".
الشابة الجامعية المسيحية هديل الكوكي، التي تنحدر من منطقة الحسكة، والتي اعتُقلت ثلاث مرات عام 2011، تجرأت وأدلت بشهادتها أمام مجلس حقوق الإنسان في جنيف عن فترة اعتقالها في سجن حلب: قالت "لا توجد حتى الآن بنت خرجت من السجون السورية، واعترفت أنها تعرّضت للاغتصاب، لكن جميعهن تعرضّن لذلك". ذكرت أن أساليب التعذيب متنوعة، من الصعق بالكهرباء، إلى ما يُعرف "ببساط الريح". وروت كيف كان رجال الأمن يضربونها بشدة على رجليها، ثم يرمونها في الزنزانة الانفرادية، بعد ملئها بالماء والملح، ويبقونها لأطول فترة ممكنة، حتى تتأذى وتتألم أكثر.
وفي حديثها مع قناة "العربية"، أكدت هديل، أنها لم تُعامل يوماً من قبل النشطاء على أساس دينها، ولم تلحظ منهم أي تصرف يزعجها، أو يحرجها كمسيحية مؤمنة بعقيدتها، لم تشعر بذلك إلا في السجن، حيث يحاول العناصر زرع الأفكار الطائفية في رؤوس المعتقلين. ذكرت أن رجال الأمن كانوا يحاولون إقناعها بأنها كمسيحية يجب أن تقف إلى جانب النظام، الذي يحمي المسيحيين، وقالت: "إن كل تلك الادعاءات كاذبة، فهذا النظام لا يحمي المسيحيين ولا العلويين، لا يحمي سوى الطغمة الحاكمة التي تساعده في قمع الشعب".
في السياق ذاته، تؤكد كل الشهادات وتقارير منظمات حقوق الإنسان، أن الوضع فظيع داخل السجون السورية، وأن الأمراض تغزوها بكثرة، بما فيها تلك التي انقرضت، بعد أن حاربها الطب لعقود، كداء السل والطاعون، وأن واحدة من كل عشرين معتقلة تُصاب بمرض عضال وقد ظهرت في المعتقلات أمراض جديدة، وحساسية من نوع غريب، فسقط شعر بعضهن حتى الصلع، ولازمت أخريات حكة جلدية واحمرار، حتى ما بعد خروجهن من المعتقل، ولا ننسى هنا عبقرية القذافي في اكتشافه "أن المرأة تحيض، والرجل لا يحيض"، وبإمكاننا أن نتخيل حجم المعاناة الإضافية التي تكابدها السجينات خلال فترة الحيّض في ظل تلك الظروف، وما قد تسفر عنه من أمراض نسائية، تكون سببا في عقمهّن مستقبلا.
لا تنتهي المعضلة عند هذا الحد، فهناك أشكال أخرى من العقاب، تنتهجها أجهزة النظام، ماثلة في خطف القاصرات والبالغات واغتصابهن، ممن ليس لهّن علاقة مباشرة بالثورة، لكنهّن ينتمين إلى المناطق الثائرة، وحسب ما جاء في تقرير "اللجنة السورية لحقوق الإنسان": "عمد النظام الحاكم في سوريا إلى اتباع سياسة العقوبة الجماعية في عمليات الخطف والاغتصاب لنساء المدن والقرى والحارات الثائرة، وجنّد لذلك الكثير من الشبيحة"، ووثق التقرير ما لا يقل عن ألف وخمسمئة حالة، تمت في الفترة الواقعة بين آذار/ مارس 2011 وتموز/ يوليو 2012، نُفذت من قبل الشبيحة ورجال الأمن والقوات العسكرية، وشارك في التهيئة للخطف، نساء كنّ يعملّن على استدراج الضحايا مقابل مبالغ مالية، ويحدث الاغتصاب على شكل عقوبة فردية أو جماعية، داخل مفارز الأمن وفي ساحات القرى، داخل المنازل أثناء المداهمات، وداخل الزنازين أو مراكز الاعتقال، أو البيوت المخصّصة للمختطفات.
سجّل التقرير شهادات مروّعة، أدلت بها المختطفات المغتصبات: وصفت إحداهن كيف تم احتجازها، مع مجموعة أخرى من النساء في أحد الأقبية، حيث تعرضت للتعذيب والاغتصاب، بشكل متكرر لمدة أسبوع كامل، قبل إلقائها في شارع ناء. وروت أخرى ظروف احتجازها في فرع فلسطين للمخابرات العسكرية: "جميع النساء المعتقلات في الفرع، كن بالملابس الداخلية فقط رغم البرد... كان الضرب والتعذيب وخاصة الصعق بالكهرباء والاغتصاب، لي ولجميع المعتقلات شيئاً اعتيادياً، حيث يتم ضربنا بإبر تجعل أجسادنا مثل النار، ثم بإبر في الركب تشل أي مقاومة من قبلنا، قبل أن يبدأ الاغتصاب..." وقالت ثالثة: "كانوا يحضرون لنا خبزاً يابساً، وعندما كنا نقول للمجندين، إنه لا يمكن أكله، يقومون بالبول عليه، وإجبارنا على تناوله". أما الرابعة فقد تم اغتصابها من قبل خمسة من عناصر الجيش السوري، بجانب جثة زوجها بعد قتله برصاصة، وبعد أن وضعوا السكين على رقبة ابنها، مهددين بذبحه.
فتاة في السابعة عشر من عمرها، تم تفتيش منزلها بحضور أهلها، ثم اغتصبوها أمامهم، قبل اختطافها لخمسة عشر يوماً، تنقلت خلالها بين عدد من الشقق، وفي كل منها مجموعة فتيات، يتناوب الشبيحة ورجال الأمن على اغتصابهنّ، وقبل ذلك يتم حقنهنّ بمادة في الفخذ، تبقيهن مدركات لما يحصل، لكنهنّ مشلولات الحركة. روت الفتاة كيف تم تقييدها، وتعريتها، وكيّ عضوها التناسلي من الداخل والخارج، بالمكواة الكهربائية، قبل أن تغيب عن الوعي، وتصحو في اليوم التالي، لتجد نفسها عاريةً في فرع فلسطين. بعد الإفراج عنها، قام أهلها بأخذها إلى الأردن، وأُجريت لها عمليات ترميم وتجميل للمناطق المصابة من جسدها، لكن الأطباء وجدوا أن المادة التي حُقنت في فخذها لمرات عدة، لاتزال آثارها موجودة، وأدت إلى حدوث نزيف داخلي، ومرض في الدم.
فتاة أخرى في الخامسة عشر من عمرها، قُتل أهلها، واغتُصبت على مدار عشرة أيام في شقق، قبل نقلها لفرع فلسطين، ودس رؤوس الفئران داخل عضوها التناسلي، ما تسبب في حدوث التهابات لها داخل الرحم والبطن. بعدها رُميت الفتاة في مكانٍ معزول من ضواحي دمشق، تم نقلها إلى الأردن، وتوجد أثار الحقن ذاتها في فخذها، وتعاني من مرض الدم ذاته.
وهذا غيث من فيّض شهادات، تتحدث عن جرائم، ارتُكبت بقصد العطب المتعمّد، لأجساد وأرواح السجينات والمخطوفات مدى الحياة، وتزيد على ذلك، بأنه كان يجري تصوير الاعتداءات الجنسية، بهدف ابتزاز الضحية وأهلها لاحقا. شهادات جُمعت، ووُثّقت، وتم التحقق من صحة ما ورد فيها، من قبل أطباء وحقوقيين مختصين، وتناقلتها مختلف وسائل الإعلام، وهيئات حقوق الإنسان، واحدة منها، لو حدثت في الغرب الحر، لقامت الدنيا ولم تقعد، ومع ذلك لا يزال الجناة طلقاء محميين، يرتكبون المزيد، ولا تزال أغلب المنكوبات، من السجينات والطليقات، أسرى التهديد والخوف من الاعتقال والخطف والاغتصاب، والمجتمع الدولي يرى ويسمع، ولا يحرّك ساكنا، كأن كل العهود والمواثيق التي وقّعها لرفّع الظلم والعنف عن المرأة، لا تنطبق على النساء السوريات.