لا أجد عبارات أو عَبَرات أواسي بها أطفال سوريا، سوى إشاحة وجهي عنهم حياء وخجلا، فنظرة واحدة في وجه طفل سوري مزقت الحرب زوايا طفولته المبعثرة، كفيلة بأن تفعل في ضمائرنا على اختلاف أصناف أفاعليها مهما كابرنا على جراحنا وتصنعنا وحاولنا استبدال قلوبنا بقطع من صخر.

نظرة واحدة من أحداق ذلك الطفل السوري كفيلة بأن تحرق ضمائرنا الحية، وتسلب النائمة منها حلاوة مناماتها وتطوي سجل طعم الحياة الهنيئة من أيامها إلى الأبد، وهي عين النظرة التي بإمكانها أن تكتب في سجالات الضمائر الميتة عبارات الشكوى وتزرع بذور الندم فيها ليحصد تجار الموت ثماره عاجلا أم آجلا.

فمن يجرؤ منا أن يتفرّس في وجه طفل سوري اليوم بثبات وثقة ويطيل النظر فيه، فنحن أعجز من أن نبادله هذه النظرة التي ملؤها التقريع واللوم والتأنيب والخيبة، بعد أن تزاوجت وانصهرت في أحداقه كل عبارات هذا المعجم المشبع بالألم، وبعد أن بتنا على يقين أنه قادر أن يقذف به في وجوهنا بنظرة واحدة تختصر كل القول وتسكت العبارات وتمحو ملامح الوجوه وتذيب الضمائر الحية وتطرد الميتة منها مهرولة نحو الخراب. 

فكم من الصعب أن تكون طفلا سوريا اليوم، طفل انتعل الموت ليلا وسار ملتصق البطن مسحوق العظام بين أزقة المخيمات، يطارده شبح وابل من رصاص ونار، فينفخ في ذكرياته المؤلمة حرقة ونقمة، يسير بلا وجهة ولا عنوان، بلا رفيق ولا مترفق بحاله، فمن أصعب التجارب الوجودية اليوم أن تكون طفلا سوريا.

هل فكرت لوهلة بإحساس ووجدان ذاك الطفل السوري السائر على خط النار، وفي أرض الشتات الموت يمعن التنكيل بجسده الوهن معجلا بمطلب الرحيل، ونافخا باستمرار في بوقه معلنا احتشاد طوابيره النهمة، فكم يحب الموت في تلك الديار الأطفال، وكم يجتهد في قطف زهرة حياتهم.

قل لي ماذا بقي لذلك الطفل السوري؟ وطن يحترق وبيت مدكوك وقبور تغص بفتات الأهل والأحبة، والشتات شبح مخيف يقف على الضفة الأخرى فاتحا حلقه لابتلاع الفارين من الموت والاحتفاظ بهم في كيس للمخيمات.

لا رائحة وطن، لا دفء عائلة، لا حضن مدرسة، لا صحبة أصدقاء.. فراغ عظيم يعربد فيه التشرد، الفقر، الجوع، المرض، ويقف على عرشه الموت مقايضا روح ذاك الطفل بحفنة من  تراب..

تراب من هنا وهناك، يعده أن يدثره إذا هلك.. فيكابر ويعض ذاك الغر على جرحه النازف ويبحث بين نسائم الرحيل المتحشرجة عن شذى رائحة تراب الوطن، فيولي وجهه نحوه ويهلك..

فكم من الصعب حقا أن تكون طفلا سوريا يهلك في الشتات، فتزحف روحه طوعا نحو تراب الوطن.

JoomShaper