فادي سعد
القدس العربي
أدرك الشاعر السوري حسين حبش، في مجموعته الجديدة ‘ملاكٌ طائر’ (نصوص عن أطفال سوريا)، (دار ‘مومنت’، لندن، 2013)، أنه لا يمكن الكتابة عن المأساة السورية الواسعة بعديد ضحاياها وتفاصيلها، في مجموعة شعرية واحدة. كان لا بدّ من اختيار شهود هُم أيضاً الضحايا الأكثر صدقاً، والخاصرة الأكثر إيلاماً للمأساة. وإذا كان أطفال سوريا هم أبطال هذه المجموعة وشهودها، فلم يفتْ الشاعر الاعتذار من الذين لم يستطع الكتابة عنهم. المجموعة تأْريخٌ شعري لمأساة سوريا، والاعتذار في مقدّمة المجموعة، تأْريخ مُكَمِّل.
هكذا يستهلّ حسين حبش مجموعته باعتذارٍ ‘لكلّ الأطفال الذين لم أستطع الكتابة عنهم…لكلّ أولئك الذين اُستشهدوا وقُتلوا وقضوا تحت الأنقاض، الذين أرْدتهم رصاصات القنّاصة… عُذبوا بوحشية لا مثيل لها، وأُذلّوا وسُجنوا، وهُجروا وشرّدوا ويُتّموا وفقدوا مدارسهم وملاعبهم… والذين يعيشون في المخيمات، وجُرحوا وأُصيبوا بعاهات وإعاقات… الذين غرقوا وفُقدوا وغُيّبوا…’. الاعتذار يمتدّ ليُكمِل مع المجموعة السرد الكامل لهويّات وحكايات ضحايا سوريا الأكثر براءة.
منذ القصائد الثلاث الأولى، يحدّد الشاعر، ثالوث المصائر السوري الذي سيتكرّر لاحقاً في صفحات المجموعة بأشكال شعرية مختلفة. الثالوث الذي سيرقد بين أضلاعه أطفال سوريا: الموت؛ الرعب والندوب النفسية؛ اليُتم. هذا الثالوث تقف على رأسه ثيمة ‘الموت’ التي ستحتلّ النصيب الأكبر من قصائد الكتاب. لذلك ربّما، يفتتح حبش مجموعته بقصيدة يسمّيها ‘صعود’، القصيدة التي ستكون أولى النبوءات عن الصعودات السماوية التي سنقرؤها تباعاً: ‘الصبيُّ الذي صعد السّلم/ ليخبرَ الجيران/ بمجيء الطائرات/ وبدء القصف/ أكمل صعوده إلى السّماء!’. القصيدة (الثيمة) الثانية ‘نجاة’، يضعها حبش أمام وجهنا سريعاً. الناجون، لن تمرّ عليهم المذبحة من دون آثار طاحنة على أرواحهم. جيل ناجٍ سيحكي قصّته بيدَين مرتجفتين، وندوب أبديّة: ‘من الرّعب وهول المذبحة/ انعقد لسان الطفل/ بيديه المرتجفتين/ روى قصّة نجاته العجيبة/ كاملةً’. ثيمة ‘الـيُتم’ التي تكمل ثالوث المجموعة، تظهر في القصيدة الثالثة ‘تَمويه’: ‘قبلَ أن تلفظ أنفاسها الأخيرة/ صَبغت الأمّ بدمها النّازف/ جَسد طفلها!/ نجا الطفل من المذبحة!’. نجاة أخرى، من دون الأمّ هذه المرة.
‘ ‘ ‘
البُعدان المتوازيان اللذان يحرص حبش على خطّهما بطريقة متناغمة في مجموعته، هما البعد الشعري، والبعد الـتأريخي الأرشيفي. الشاعر يكتب، بعينٍ واسعة على الجمالية الشعرية، والعين الأخرى على التاريخ. التاريخ هنا ليس بمعناه المجرّد المطلق، بل تاريخ الثورة السورية تحديداً عبر ضحاياها الأطفال. ببراعة ونجاج، تُرصد وتُلتَقط بعض المنعطفات المأساوية التاريخية للثورة، بشخوصها وأماكن حدوثها، وتُوثَّق شعرياً في القصائد. الخط الأفقي للتاريخ، يمسك به الشاعر في بعض نقاطه، ويمدّ من هذه النقاط خطوطاً عمودية شعرية، يمتدّ طرفاها في المخيّلة والتقنية الكتابية الخبيرة. الأحداث التاريخية التي اختارها الشاعر، كانت بالتأكيد تلك التي حرّكتْ بعنفها ومأساويّتها الرغبة في كتابتها، وتأبيدها شعرياً. هكذا، يأخذنا الخطّ التاريخي في قصائد المجموعة من مجازر بابا عمر (‘عصافير بابا عمر’)، والحُولة (‘غضب’)، والتريمسة (‘أطفال التريمسة’)، إلى أطفال ضحايا حفروا أسماءهم في الوعي السوري الجديد المصدوم، فنقرأ قصائد عن حمزة الخطيب (‘حمزة الخطيب’)، وشانتال عوّاد (‘نجمة’)، وناتالي الخطيب (‘اللّهاية’)، وفاطمة المغلاج (‘الطفلة فاطمة المغلاج’)، وأديل زعتري (‘أديل يا طفلتي الجميلة!’).
الحواشي التوضيحية في نهاية بعض القصائد تؤكّد الهمّ التوثيقي للمجموعة، الذي حاول أن يكون شاملاً قدر الإمكان لأوجه المأساة العديدة، حيث نقرأ عن قصف الطائرات والقنص والسيارات المفخّخة وسكاكين المذابح وأهوال النزوح. الهمّ التوثيقي الذي لم ينس أن يمرّ على اللحظة الأكثر مصيرية في مسار التاريخ السوري الجديد في قصيدة ‘أطفال درعا’: ‘تذكّر، وأنت تمرّ من درعا/ أن تُهدي أطفالها طَباشيراً/ بألوان قرسٍ قزح/ وتقول لهم بأنّ أصابعهم/ ما زالت من ذهب’. هذه القصيدة (والحاشية المرافقة لها) تطفو على وجهها، أعلى من غيرها، الرؤية السياسية. فأحد إنجازات المجموعة، أنّ حبش يتكلم على تداعيات حدث تاريخي سياسي بامتياز، من دون أن يترك السياسة تفسِد الشعر، أو تتقدّمه. كما أنّ هذه القصيدة (‘أطفال درعا’)، وقصيدة أخرى بعنوان ‘ملاكٌ طائر’، هما القصيدتان الوحيدتان تقريباً اللتان خلصَتا من ثالوث المصائر المأساوي. في ‘ملاك طائر’، أملٌ مُبشّر يبرز فارقاً بين قصائد المجموعة: ‘الطفلة التي رَبطوا يديها المكسورتَين/ بالشاش الأبيض/ ألحّت على أمها أن تعرف/ لماذا يداها مربوطتان هكذا؟’، ويُنهي الشاعر القصيدة: ‘إنّها تتعافى روَيداً رويداً/ تحرّك يديها كجناحَين/ وتحاول الطيران’. اختار الشاعر هذه القصيدة عنواناً لمجموعته. قصيدة الأمل أصبحتْ هي العنوان. ربّما أراد حسين حبش، وسط هذا الخراب، أن يخبرنا نبوءةً ما بهذا الاختيار.
‘ ‘ ‘
قصيدة النثر التي كتبَها حبش في ‘ملاك طائر’، استطاعتْ، عبر شساعة المخيّلة ونضج نقدي في الكتابة الشعرية، اجتيازَ أحد الاختبارات الأكثر دقّة وخطورة برأيي لكتابة الشعر نثراً: اختبار عدم الوقوع في النثر. اختبار تكسير النثر. ذلك المفهوم الذي شكلّته مارغريت مورفي، وأفردَتْ له بحثاً مطوّلاً في كتابها ‘تقليدٌ من الهدْم’. النثر بما يعنيه من انسياب منطقي أفقي، وإحالات مُتوقَّعة، واحترام للإسقاطات التقليدية. فإذا كان الشعر الحديث، الذي يعبّر عن جنسه بالقصد والشكل والإحالة، يريد أن يُكتب بواسطة النثر، يبقى عليه مهمّة الافتراق عن هذا النثر بطريقة ما. مهمّةَ أن لا يصبح وجهاً آخر فقط للنثر. قد يرى البعض في تبنّي مفهوم كهذا تعريفاً فيه بعض السلبيّة، وهو بالفعل كذلك. لكنه بالمقارنة، تعريف أكثر وضوحاً وأقل تجريداً. كما أنه كما ذكرنا، واحد من الاختبارات، ولا ينفي ضرورة وجود تعريف إيجابي للشعرية (الغامضة التعريف نقدياً). تكسير النثر بالتحديد السابق الذكر، ثم نصْب الشعر على أنقاضه، عملٌ قام به حبش في مجموعته باحتـراف، وجمالية إدهاشية مثيرة للإعجاب.
فعَل حبش ذلك بآليات شعرية في الدرجة الأولى: تغريب الواقع وخلق واقع شعري بديل؛ اللعب مع المرجعيات اللغوية الـمُتعارف عليها؛ تحطيم المنطق ونقض التوقّعات؛ شدّ السرد وتوتيره إلى أبعد حدوده الممكنة. ففي هذه المجموعة، اختار الشاعر السرد بشكل أساسي، معتمداً على الحدَث والحوار، كقالب لقصيدته النثرية. اختيارٌ ملائم جداً لهذا الديوان المـَعنيّ بالإخبار عن تفاصيل مأساة. ولا ندري إذا كان هذا الاختيار ظرفيّاً، أو جزءٌ من رؤية شعرية نقدية أكبر. فقصيدة النثر السرديّة باتتْ أحد الأنواع الأكثر رسوخاً بين أصناف قصيدة النثر، وغدتْ هذه القصيدة مَدينة للرواية والقصّة القصيرة بقدر مديونتها للتراث الشعري.
ينجح حسين حبش في توجيه السرد وتكثيفه شعرياً. يقول في قصيدة ‘ابتسامة’: ‘الطفل الشهيد الذي كان يبتسم/ لم يكن يبتسم لأجل الابتسام فقط!/كان بذلك يُهدّئ من روْع أمّه/ ويخفّف من حزنها الشّديد عليه’. التشييء أيضاً، يستخدمه الشاعر لتطعيم سرده بالدهشة الشعرية، وكتابة ما يُسمّى بـ’قصيدة الشيء’: ‘الكاميرا التي كانت تُصوّر/ جثث الأطفال/ ارتعبتْ من المشاهد المروّعة/ تراجعت خطواتٍ مرتبكة إلى الوراء/ وانهمرت دموعاً عزيزة/ من العدسة’،(قصيدة ‘كاميرا’).
من الواضح أن حبش لم يرغب في أن تُشغلنا أشياء أخرى عن شعرية القصائد وكثافتها. اللغة التي يستعملها تشبه وجهاً صافياً ينظر إليك لحظة الاستيقاظ: لغة خالية من مكياجات البلاغة والأساطير. لغة لا تريد أن ننشغل بحمرة شفاهها، بل أن نصل فقط من خلالها، إلى قلب الواقع وجمالية الصورة الشعرية. هذه اللغة المـُقتصِدة، مع الآليات السابقة الذكر، تقوم بدورها المطلوب تماماً في تشعير السرد. مع ذلك، نجد في المجموعة قصائد قليلة، يقترب فيها حبش بشكل خطر من استرخاء نثري، على حساب العمق الشعري. يحصل هذا خصوصاً في القصائد الطويلة مثل: ‘لا تتركني وحيداً يا أبي’ و’في رثاء البيوت الجميلة’. ربّما كان هذا اقتراباً مقصوداً من الشاعر، لغايات توثيقية كما ذكرنا، لكنه نافرٌ في المجموعة، بالنسبة إلى غالبية القصائد.
‘ ‘ ‘
قيمة هذه المجموعة (الخامسة للشاعر)، ليست فقط في الموضوع الذي تطرقه. ذاك الألم المأساوي الرهيب الذي يخترق قلب شعب بأكمله، وتلك الملحمة التي بدأتْ من أصابع من ذهب. بل تكمن قيمتها أيضاً، وخصوصاً، في الشكل الذي تكتب به هذا الألم. لا نستطيع دائماً، قراءة قصيدة نثر بهذا الصفاء والجمال.
‘ملاك طائر’ لحسين حبش: تاريخ شعري للمأساة السورية
- التفاصيل