محمد إقبال بلو: كلنا شركاء

في أنطاكية المدينة التركية الصغيرة القريبة من الحدود السورية والتي تحتضن مئات الأسر السورية أغلبهم من محافظات حلب وإدلب واللاذقية، تختلف أجواء العيد عن تلك التي كان يعيشها السوريون في مدنهم وبلداتهم داخل الوطن، إذ لا تشاهد أياً من طقوس العيد سوى تكبيرات صلاة العيد ولمدة قصيرة صباحاً، بعدها تكاد الشوارع تخلو من الناس حتى المساء، على عكس ما تتميز به المدن السورية في هذا اليوم إذ تبدأ الزيارات لتبادل التهاني والتبريكات صباح العيد وبعد صلاة العيد مباشرة.

إلا أن السوريين هنا لازالوا على عاداتهم واحتفالاتهم رغم اتساع الجرح وآلام الغربة ومشاق النزوح واللجوء التي يعانون منها بشكل يومي، فترى شوارع أنطاكية ومنذ الصباح الباكر تعج بالسوريين الذين استمروا على عادة تبادل الزيارات صباح العيد ومنذ الساعة الثامنة صباحاً أو قبلها بقليل.

والمشهد المثير للانتباه أولئك الأطفال السوريون الذين يحاولون الاستمتاع بطقوس العيد والتصرف على نحو مشابه لما كانوا يقومون به في سورية، يجوبون الشارع ويزورون منازل من يعرفونهم من أقارب وأصدقاء، يحصلون على بعض قطع الحلوى أحياناً وتارة يحصلون من محبين وأقرباء على قطعة نقدية معدنية مرفقة مع الحلوى فيكون الفرح بهذا الإنجاز والذي سيتم استخدامه في شراء إحدى الألعاب التي يهواها الطفل ويستمتع بحصوله عليها، وربما كان ينتظر بفارغ الصبر تلك اللحظة التي يشتري فيها لعبة العيد التي يعتبرها أهم من المأكل والملبس بكثير.

أسماء طفلة في الثامنة من عمرها، التقطت قطعة الحلوى دون أن تظهر على وجنتيها أية ابتسامة، بشكل مختلف عن باقي الأطفال ظهر على وجهها حزن أو ارتباك أو شيء ليس لنا قدرة نحن الكبار على فهمه، إلا أنها فيما يبدو فهمته وأحست به فسلب منها الابتسامة، ولدى سؤالها عن العيد كان جوابها السريع دون تلكؤ أو تردد “العيد في سورية أحلى” .. ولماذا لا تذهبين إلى سورية؟ فترد “لأنو في قصف، بس يموت بشار بدنا نروح”.

أسماء عينة من الطفولة السورية الجريحة، والتي تشعر بألم البعد عن الوطن والارض، كما أنها تعي كباقي أطفال سورية سبب نزوحها وانتقالها إلى بلد آخر، لكنها ومن أجوبتها كانت تتيقن من عودتها وتعتبر ان الموضوع ليس سوى موضوع وقت لا أكثر.

بينما حمودة ابن الست سنوات قال لنا “هون العيد مو حلو، أنا موحاسس انو في عيد” وعند سؤاله عن السبب أجاب “وين العالم في العيد بيجو ناس كتير لعنا”، لم تستطع الحلوى ولا القطع النقدية المعدنية أن تقنع (حمودة) ان هذا هو يوم العيد، ولا كلمات التهنئة بالعيد التي وجناها له لم تجد نفعاً في روح طفل شعرت بالغربة وفقد الحياة الاعتيادية التي أحبتها.

مجموعة من الأطفال يلعبون على رصيف أحد الشوارع بالقرب من حي السوريين الفقراء (حي حبيب النجار) حيث تنخفض تكاليف استئجار البيوت عن المناطق الأخرى كونه حي ذو مساكن قديمة يعود بعضها لأكثر من خمسين عاماً، يحمل الأطفال مسدساتهم البلاستيكية ويلعبون اللعبة المفضلة لدى معظم أطفال سورية.

لعبة (شبيحة وثوار) لعبة بات متعارف عليها بين الأطفال إذ أن معظمهم عاش تفاصيلها أو سمع عنها وشاهدها، حيث يطارد الشبيحة الثوار للقبض عليهم، بينما يدافع الثوار عن أنفسهم، وما يختلف في هذه اللعبة عن الواقع، أن اللعبة تمكّن الثائر دوماً من الانتصار على الشبيح، وهي نتيجة حتمية في لعبة الأطفال السوريين تلك، ويؤمن كلهم أن النصر في النهاية للثوار، كما يدركون الفرق بين الحق والباطل ويعلمون ان الحق سينتصر في النهاية لا محالة.

يقول الطفل عبد الله في جواب على سؤال حول اختياره لهذه اللعبة ولهذا السلاح البلاستيكي الذي يطلق كرات بلاستيكية صغيره ويسميه (فرد خرز): “اشترينا مسدسات مشان نحارب فيهن الشبيحة، لأنو هن معهن مسدسات طيب نحن كيف بدنا نحاربهن بإيدينا، هيك بيقتلونا كلنا” وعندما تصيب كرة البلاستيك الصغيرة الطفل الذي يمثل دور الشبيح في اللعبة يكون قد قتل وخرج من المعركة (اللعبة) بالنسبة لباقي المشاركين.

تعمل العديد من المنظمات المدنية في أنطاكية على انتزاع هذه الأفكار من رؤوس الأطفال، ويحاول بعضها أن يوجه الأطفال نحو تعلم الموسيقا والرسم وتوجيههم لألعاب تبعدهم عن الواقع المرير الذي عاشوه والأحداث التي تعرضوا لها، إلا أن محو صورة السلاح والقتل والدمار من ذاكرة طفل ليس بالأمر السهل إنجازه عدا عن أنه يتطلب وقتاً وجهداً كبيرين.

 

أما الكبار فهم يحاولون رسم ابتسامة تظهر باردة غالباً على وجوههم، يتصنعونها ويتكلفون بإظهارها كرمى لعيون أطفالهم حتى يشعرونهم ببهجة العيد وفرحته التي كانوا ينعمون بها في سورية، رغم أنها محاولات شبه يائسة إلا أنها تخفف من وطأة الألم، فكل عائلة فقدت شهيداً او معتقلاً، أو لديها مصاب أو معاق، ورغم كل الجراح ترى السوريين يهنئون جيرانهم الأتراك بقدوم عيد الفطر، ويظهرون مدى قوتهم وقدرتهم على الاستمرار بالحياة والتأقلم مع كل الظروف والمعاناة التي يتعرضون لها بعيداً عن وطنهم وأرضهم، ولا بد من بعض دموع بين الفينة والأخرى.

JoomShaper