أكتب المأساة بمداد عيون كل طفل فقد أهله, وكل أم ثكلى على أطفالها, وكل أب فُجع بأبنائه, ولو قلت ذلك بكلّ لغات الحزن لا أستطيع أن أصف تلك المجزرة المروّعة !
يوم استيقظت على نداء اللاسلكي وسيارات الإسعاف تسير
بسرعةٍ جنونية في الساعة الثانية والثلث ليلاً, لم أعي على شيئ
إلا أنني هرعت فزعاً لمكان عملي في أحد المراكز الطبية في
الغوطة الشرقية, رأيت المصابين تتوافد بالعشرات وكلما نزلت
دفعة قلت في نفسي هذه آخر دفعة إن شاء الله ومضت الساعة
تلوَ الساعة والسيارات المدنية والطبية تنقل المصابين حتى أصبح المكان عندي مليئاً بالمئات من الشهداء, كان عندي
مايقارب 380 شهيـــــــــداً ....!!!ومئات المصابين والله لقد نفذت كل إبر الأتروبين حتى أشار علينا
بعض الأطباء أن نعطي الأتروبين البيطري ولكن بنسب أقل ثم نفذ ..!
فكان يأتينا المصاب فلا نجد غير الماء نغسله به ونقول:
" اللهم رب الناس, أذهب الباس, اشف أنت الشافي ..."
ونسأل الله أن يجعل هذا الماء خيراً من إبرة الدواء لأننا لا نملكها . . . .
والله تبرأنا من حولنا وقوتنا ولجأنا إلى حول الله وقوته
أن يعيننا في هذه المحنة . . .
كانت الأطفال تأتي إلينا تتخبط كالسمك الخارج من الماء,
والنســــاء أتت بملابس النــــوم لاتعي على شـــــــــيء ! ! ! !
أما الرجال فما أقساه من منظر أن تنظر إلى رجل وهو يصارع الموت وأنت لاتقوى على فعل شيء كان دوائنا الوحيد هو الدعاء
والتسمية والماء, لقد إمتلأ المكان بالجثث !!
حتى لاتكاد ترى أرضاً أبداً, والله مأساة تفوق الخيال
وتعجز كلمات الألم عن وصفها !!!
كل شيء حولي يخبر عن الموت والغدر حتى سائقي الإسعاف
وجدتهـم ملقــون بين المصابيـــــــــن ..! ! !
ليلة لا أحسبها من حياتي أبداً, نسيت أننا في هدأة الثالثة ليلاً, وأحسست أننا في ضجيج الثلاثة ظهراً, كلما إلتفتت يمنة ًويسرة
أرى موتاً و دموعاً, فلن أنسى منظر ذاك الأب جاء يتفقد أسرته
فوجد إبنتيه شهيدتين ضمّهما وبكى بكاءً مرّاً,
فبكيـــــــت وبكــــى كل من حولـــــــــــي . . . صرخ ونادى
(بابا قومي, جايبلك لعبة قومي قولي يارب, حاكيني ..) ولكنها أبت !!
فهي الآن تلعــب وتمــرح في جنــــة الفـــــردوس . . .
وتلك الأم جاءت تنفقدُأ ولادها الأربعة لتجدهم جميعاً
قد رحلوا إلى جوار أرحم الراحمين,
" أَنَّتْ أَنِيْنَ المَكْلُوميـــــنْ, وَدَعَتْ دُعَاءَ المَظْلُوميـــــنْ"
قبّلت أولادها قبلة الوداع حتى تبلّلت وجوههم بدموعها !
والله لن أنسى ذاك الشاب قال: وجدت تسعة
من إخوتي ولم أجد أمي !
نادى أمي ... أمي !! علَّ تلك الأم الحنونة تسمع صوته
فتجيبه ولم يكن يعلم أن أمه
قد أسعفت إلى مركزٍ آخر فاستشهدت فيه . . . .! ! ! ! ! !
أمّا ما آلمني أكثرَ وأكثر وفطّر قلبي, طفل لايتجاوز العاشرة قال لي:
(عمّو شفتلي بابا ؟! لابس بيجامة سودا, أمانة دورّ لي عليه,
إن شاء الله يكون عايش !! أمانة عمّو دوّر معي)
انهمرت بالبكاء ضممته وقبّلته, و وجدت أباه شهيداً
أقبل عليه يقبّله من رأسه إلى أخمص قدميه, ويضع أذنه على
قلبه علّه يجد فيه حياة, وذاك الجدُّ قد
خضّبت الدموع لحيته ويقول مجهشاً بالبكاء:
دفنت كل أولادي وأحفادي ولم يبقى غيري . . . . ! !
لقد تجاوزت أعداد الشهداء 1500 فقد كان الشباب
يدخلون إلى المنازل يأخذون الأحياء ويتركون الشهداء فقد
كان في البيوت من الشهداء أضعاف ما وصل إلى
الطبيات ... آه ...... آه ...!
وما إن مضى ذاك النهار الحزين الكئيب حتى تجلّت
المأساة الحقيقية, مأساة الأحياء . . . . ! ! !
الأطفال تحسنت حالتهم واستعادوا وعيهم وأجهشوا
بالبكاء .. ماما .. بابا . . .
ومن أين نأتي لهم بذويهم وقد إستشهدوا ؟؟؟؟!!
أتينا بالأطفال من المراكز الطبية وجمعناهم في مكان واحد,
لكي يتعرفوا على بعضهم ... علَّ الأخ قد يجد أخيه, وابن العم
يرى ابن عمه, والكبار يعرّفونا على أسماء الصغار الذين لاينطقون وعلى الرضع, فقد كان البكاء والأنين سيد الموقف !
فما كان منا إلا التوثيق والتعميم . . . .
والله إنها لمأساة إنسانية, وجريمة بشعة لم يشهد مثلها التاريخ . . .
ومهما كتبت من كلمات مؤلمة يبقى الواقع أشد ألماً ومرارة,
ولكن هذا ما رأيته بأم عيني, والمأساة مستمرة . . . وكل من
يعمل في المراكز الطبية يدلي بشهادة أشد ألماً من الأخرى....!!!!
حسبنا الله ونعم الوكيل .. حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله
إنا إلى الله راغبون..