الكرامة برس- متابعة- بعد ستة أشهر من لقاء سابق، أعادت صحيفة "لوموند" الفرنسية التواصل مع إحدى العائلات التي هربت من الحرب السورية في مدينة دير الزور، ليجدو العائلة وقد استقر بها المقام في قرية نمساوية صغيرة، حيث يبني أفرادها حياة جديدة. بيد أن اندماجهم في المجتمع النمساوي ليس بالأمر السهل.
وفي مستهله، تقول الصحافيتان اللتان أعدتا التقرير: "عانَقَنا هاني بذراعيه الطويلين في مطار فيينا. كان ذلك في أواخر الخريف، والمارة يحدقون في هذا السوري الأنيق الذي اختار أفضل بزة لديه للترحيب باثنين من (شقيقاته) كما يُطلق علينا في بلده الجديد".
تساءل رجل نمساوي وقد أسره المنظر بوضوح: "إنه لاجئ، أليس كذلك؟" وأضاف: "يبدو أنه على ما يرام".
في الواقع، كان هاني بأفضل حال. فقد بدا حليقاً مطمئناً ولا تبدو عليه علامات القلق التي رأها مراسلو الصحيفة على وجهه آخر مرة رأيناه في مايو (آيار) حيث كان على وشك اتخاذ طريق البلقان مع زوجته براح وأطفاله الأربعة الصغار. يقول هاني: "أردت أن أذهب إلى ألمانيا، لكن عندما وصلنا أخيرا إلى النمسا، بدا كل شيء هادئا جدا وسلميا".
ويضيف قائلاً وهو يبتسم: "تذكرت أغنية عربية تتحدث عن ليالي فيينا الساحرة. وسألت براح إن كانت توافق على البقاء هنا. نظرتْ ملياً إلى النهر وقالت: "نعم لنبقى". لم أقل لها ساعتها إنه لم يتبق في جيبي سوى 240 يورو!". تابع قائلاً: "تغمرنا الآن راحة عظيمة".
فر هاني وأسرته من دير الزور، وهي مدينة تقع شرقي سوريا وتسيطر عليها قوات الحكومة لكنها محاصرة من قِبَل مقاتلي داعش. استغرق الأمر من الأسرة 44 يوما للوصول إلى فيينا. وعندما اجتمع مراسلو "لوموند" بهم في أبريل (نيسان) 2015، كانت الأسرة قد وصلت لتوها إلى جزيرة كوس اليونانية، وتبعهم المراسلون حتى الحدود مع مقدونيا.
يقول هاني: "أخذنا القطار من هناك إلى الحدود الصربية، ثم قطار آخر حتى بلغراد. ومن هناك مشينا إلى الحدود المجرية".
وهذا يعني أن الأسرة أمضت يومين تحت المطر. كانت ابنتهما الصغرى، بتول، تبلغ عاماً واحداً في ذلك الوقت. وعندما اقتربت الأسرة من بودابست، كان قلبها قد توقف تماماً. يتذكر هاني تلك اللحظات قائلاً: "تمكّنت من إعادة إنعاش قلبها ثم ركضت بحثاً عن سيارة تنقلنا إلى الحدود النمساوية". ووافق أحد السائقين أن ينقلنا مقابل 500 يورو وشغل التكييف الحار في محاولة لتدفئة ركابه.
انتهى الأسوأيروي هاني كل تلك الأحداث في السيارة التي تقلّه مع مراسلتيْ صحيفة لوموند من المطار إلى قرية نمساوية صغيرة تُدعى أونترفالترسدورف، جنوبي فيينا، حيث تستضيفهم الحكومة حتى يتم منحهم اللجوء. يتابع هاني قائلاً: "في الأسابيع الأولى هنا، في هذا الريف، كنت آخذ دراجتي وأذهب بالساعات وأنا أصرخ وأبكي. كان من المستحيل بالنسبة لي أن أفعل ذلك أمام أعين عائلتي".
وصل هاني بصحبة المراسلتيْن إلى القرية، حيث وجدوا براح وأطفالها وقد قاموا بإعداد المائدة وكأنهم في عيد. وتزينت السفرة بزهور جديدة وسلطة وجبن وخبز. فقد وضعوا أفضل ما في ثلاجتهم الخاصة. يعتني مالك المنزل بتوفير الأساسيات. وبالنسبة لأي إضافات، يركب هاني دراجته إلى البلدة المجاورة، على بُعد 25 كم، حيث توزع هيئة "الصليب الأحمر" الطعام لمرة واحدة في الأسبوع.
وفي قرية أونترفالترسدورف، يعد جيرهارد هينترمايور هو "الزعيم" كما يدعوه الجميع. وهو يمتلك مطعماً وكافيه في الساحة الرئيسية، وفندقاً للسياح محبي الصيد، وملهى ليلي قذر نوعاً ما وثلاثة منازل للإقامة الداخلية حيث يقيم فيها 115 من طالبي اللجوء حاليا. تدفع له الحكومة 19 يورو يومياً عن كل لاجئ لتوفير السكن وثلاث وجبات يومياً. ويقوم كل شهر بإدارة ميزانية قدرها أكثر من 65 ألف يورو. يقول جيرهارد: "إذا أردت كسب المال بصورة فعلية، لكنت قد أجرت هذه الشقق لغير اللاجئين".
وعندما تُبدي مراسلتا صحيفة لوموند له ملاحظة بأنه سيناضل للعثور على مستأجرين لهذه الشقق المتهالكة والمعزولة، يقول جيرهارد إنه لا يدير فندقاً من طراز خمس نجوم، وتحسين وضع هذه الشقق مضيعة للوقت.
يعتمد اللاجئون على هذا الرجل كلياً من حيث إيوائهم وإطعامهم وحتى تنظيم زياراتهم إلى الطبيب، فهو يتمتع بحرية الوصول إلى نظام الرعاية الصحية النمساوي.
يسأل "ليث" (9 سنوات): "هل يمكننا الذهاب إلى الحديقة قبل دخول الليل يا أبي؟". هناك أيضا شقيقته "أمل" (8) وحمزة (5) وبتول (18 شهر). يخرجون من المنزل حيث يلعبون بالأرجوحة والزلاقة في فرح. يلعبون مع بعضهم بعضاً دون الاختلاط مع العدد القليل من الأطفال النمساويين. تقول أمل: "نحن لا نتكلم الألمانية جيداً بما فيه الكفاية". وتضيف: "هم لا يحبوننا على أية حال".
عملية الاندماج
التحقت أمل وشقيقها الأكبر ليث بالمدرسة الابتدائية المحلية منذ سبتمبر في قرية إبريتشسدورف المجاورة. ويبدؤون يومهم كل صباح، قبل الانضمام إلى بقية الفصل، بحصة من ساعتين لتعليم اللغة الإنجليزية بصورة مكثفة مع غيرهم من الأطفال اللاجئين من العراق وكوسوفو وسوريا.
يقول معلم الألمانية للأم براح: "تعمل أمل بجد واجتهاد ولكن شقيقها الأكبر ليث يناضل من أجل احترام القواعد. أنت تعرفين أننا لدينا قواعد في النمسا. ويجب عليه الالتزام بها".
تقول براح وهي تبتسم إنها سعيدة جداً بالمدرسة. "أحب إصرار المعلمين مع الأطفال. في سوريا، لم يسمح تنظين داعش بعودة الأطفال إلى المدرسة. كل شيء هنا منظم، وأنا أحب ذلك. لكنني أعرف أن الجزء الأصعب لا يزال أمامنا. نحن بحاجة إلى الاندماج".
يعتبر الاندماح هو التحدي الأكبر لهذه الأسرة السورية. هناك عقبات كبيرة وصغيرة على حد سواء. هناك سوء فهم اللغة، والحجاب الذي لن تتخلى عنه براح والتي تظن أنه يؤذي كثيراً من النمساويين، فضلا عن الاختلافات الثقافية التي لا تُعد ولا تُحصى. يقول هاني: "إننا لم نصل بعد. ولن نصل إلى نهاية الرحلة إلا عندما يكون لدي منزل وعمل لأعيل عائلتي".
تحقيق التوازن الثقافي
يتساءل هاني أيضاً عن كيفية الاحتفاظ ببعض المبادئ السورية والدينية في هذا المجتمع الليبرالي الجديد الذي رحب بهم. وقال إنه يود أن تبدأ ابنته ارتداء الحجاب في حوالي الـ14 أو 15 من العمر، لكنه يشعر بأن ذلك قد يعرض فرص اندماجهما للخطر. ويضيف قائلاً: "يجب أن تتزوج مسلما". وتبدو براح أكثر اعتدالاً: "سنمر بتغيرات كثيرة في السنوات القليلة المقبلة. وسيرى هاني الأشياء بشكل مختلف عندما يحين الوقت الذي ينبغي أن تتزوج فيه أمل. هذه أرض مسيحية، ونحن بحاجة إلى الامتثال لقواعدها".
تثور مناقشات في القرية حول عدد المحجبات اللاتي ازدادت أعدادهن في الأشهر الأخيرة. يقول أحد القرويين، جيرهارد، البالغ من العمر 57 عاما، وهو عامل مختبر متقاعد: "كل مرة أرى فيها إحداهن، أشعر بالاستفزاز. يطالبوننا بتسامح لا يبدونه في بلادهن".
ينتاب القلق مارك رويز هيلين، وهو ناشط من فيينا أشرف على تنظيم "حفل لتعارف الجيران باللاجئين". يقول: "لست خائفاً من اللاجئين، لكنني بدأت أخشى أن لا يستطيع مجتمعنا دمجهم. فالنمسا آخذة في الانقسام".
كان هاني ضمن الـ200 لاجئ الذين تظاهروا أمام السفارة الفرنسية في فيينا، دعماً لباريس بعد الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها في 13 نوفمبر. كان يخشى أن تؤدي هذه الأحداث الدامية إلى تغيير كل شيء بالنسبة له ولأسرته: "إن صورة العربي تخيف الناس الآن. وأطالب الأوروبيين بالصبر. وفي يوم ما، ستقوم ابنتي التي تريد أن تصبح طبيبة بالاعتناء بالنمساويين".
لقد حصل هاني وعائلته على حق اللجوء في 27 نوفمبر (تشرين الثاني)، وهي الخطوة الأولى نحو الحياة الجديدة التي يحلمون بها.