وضحة العثمان: كلنا شركاء
يعيش أطباء سوريا أو من بقي منهم، ممن رفضوا اللجوء وما يصحبه من حياة هادئة تغص بالرفاهية وتمكنهم على الأقل من النوم العميق الذي حرموا منه في بلد يتوافد فيه الجرحى والمصابون باستمرار إلى المشافي وبأعداد ضخمة، بين اندفاعهم الإنساني الذي يعتبرونه واجبا وفرض عين، وبين انعدام الإنسانية في هذا العالم.
مشاهد تسبب أمراضا نفسية لفظاعتها وقسوتها، ورائحة الدم المتكررة توجع حتى حاسة الشم، ولكن خلق ابتسامة على وجه أم أنقذ مبضع الطبيب طفلها، وسماع دعاء بصوت تقطعه دموع الفرح والشكر كان كما يقول الأطباء الصامدون: أجمل أجر.

مذ بدأت صيحات الحرية في سوريا تعلو معلنة الثورة، أصبح لزاما على كل من يمتلك الحس الإنساني أن ينخرط فيها، كل في مجاله بما يخدم هذه الثورة المباركة، ولأن مهنة الطب أو رسالة الطب هي رأس الهرم الإنساني وذروته، ولأن التاريخ يذكر الأطباء الذين يضمدون من مزقتهم الحرب أكثر من القادة الذين اقترحوا الحرب، ولأن الإيمان بالواجب وتحمل المسؤولية كان حاضرا وبقوة في نفوس نذرت نفسها للوطن الجريح، آثر بعض أطباء سورية الانصهار في بوتقة الألم والوجع والمعاناة، ورغم استهداف المشافي بشكل مستمر واستشهاد الطبيب تلو الطبيب، فإن عزيمتهم لم تنكسر بل على العكس تماما.
ولكن الذي حصل مع الطبيب “مازن العلي” كان أشد وقعا على الأطباء من حمم الطائرات وجحيمها، كان الطبيب مازن يعمل ليل نهار في مستشفى “القدس” الكائن في مدينة حلب التي لا يمر يوم دون أن يمطرها النظام بشتى أنواع القذائف والصواريخ، ليبدأ عمل الأطباء في إعادة الذين ملأت شظايا قذائف النظام أجسادهم إلى الحياة، ولكن من يداوي الطبيب إذا أصيب، فقد استهدف الطيران المستشفى، ما أدى إلى إصابة الدكتور مازن بشظية اخترقت منطقة البطن وأدت إلى نزيف داخلي في الأمعاء وتمت السيطرة عليه في مستشفى “الصاخور” في حلب، بالإضافة لعدة كسور في الجمجمة تسببت بنزيف في الدماغ ما أدى إلى حدوث وذمة دماغية.
حالة المصاب كانت خطرة جدا، الأمر الذي دفع مستشفى الصاخور لتحويله إلى تركيا، وتم نقله بسيارة إسعاف سيئة لدرجة أنها نفدت من الوقود وهي ضمن الأراضي السورية، بالإضافة إلى نفاد أسطوانة الأوكسجين رغم أن المصاب على التنفس الاصطناعي، وبعد إضاعة وقت كبير حضرت سيارة إسعاف أخرى غير مجهزة ليتم نقله إلى الحدود السورية التركية ثم إلى مستشفى “الجامعة” في مدينة أنطاكيا.
لم يكن نقله إلى مستشفى الجامعة بمثابة الوصول لبر الأمان، فقد بقي 27 يوما في العناية المشددة ليتم تخريجه من المستشفى مباشرة على الرغم من أنه لم يتلق العلاج الكامل، وسبب تخريجه كان لأنه لا يحمل الهوية التركية.
“عبد الله” وهو من الكادر الطبي في سورية قال: نحن نقوم بمعالجة جرحى قوات النظام الذين يقعون في الأسر رغم أنهم قصفونا بكل ما أوتوا من قوة، الطب رسالة إنسانية قبل كل شيء فكيف يترك الطبيب مازن دون علاج لسبب تافه كهذا.
التقرير الطبي لحالة الطبيب مازن يفيد بأنه يعاني من عدة كسور في الجمجمة بحاجة إلى صفائح، وفتحة في منطقة البطن، وشظايا في العين اليسرى إضافة إلى انصهار في قرنية العين اليمنى ما جعله بحاجة ماسة لزرع قرنية لأن العين مهددة بالضياع، بالإضافة للوضع الصحي والعصبي والنفسي السيء جدا.
يقول محمد شقيق الطبيب مازن ” قمت بنقله لمشفى الأمل في مدينة الريحانية لعدم وجود مشفى يستقبل حالة مرضية كحالته، ولكن مشفى الأمل لا تتوفر فيه الإمكانيات اللازمة لعلاج المصاب وضعه الصحي الآن من سيء إلى أسوء، أما بالنسبة للمستشفيات الخاصة فليس لدينا القدرة لتحمل عبء مصاريف العلاج، ولم أجد أي اهتمام من أي جهة مسؤولة عن المشفى الذي كان يعمل فيه المصاب”.
مأساة الطبيب مازن آلمت كل من عرف قصته وخاصة زملاءه الأطباء الصامدين، الذين لم تزعزع طائرات النظام ولا طائرات روسيا صمودهم ولكن ربما يزعزعه ما جرى لزميلهم مازن، فهذه القضية الإنسانية أشد وقعا وألما من براميل النظام وصواريخه.

JoomShaper