اخلع نعليك.. وصلِ من أجل مصر.. قبل ترابها.. انظر لوطنك.. واحمد الله.. ولبيتك واشكر السماء.. ولأولادك وقر عينا.. ثم تعال معنا إلى «عرسال».. تعال معنا بضميرك وذهنك وقلبك.. تعال لتعرف قيمة الوطن.. عشرات بل مئات بل آلاف القصص والمآسى لأشقائنا السوريين، الذين بين عشية وضحاها وجدوا أنفسهم بلا وطن.. فجأة قامت هناك الساعة.. نيران وقتلى ودمار.. فروا شتاتا يلاحقهم الموت بحرا وبرا.. ثم إذا ما وجدوا مأوى حسبوه نهاية المطاف وجدوه واقعا مريرا يندر فيه الغذاء والدواء.. «البوابة» دخلت مخيمات اللاجئين السوريين بـ«عرسال» اللبنانية لترصد عشرات القصص والمآسى للنازحين على الشريط الحدودى فى هذا التقرير.
امرأة أربعينية تجلس بالقرب من خيمة غارقة بالصرف الصحى فى مخيم «السلام» للاجئين بمدينة «عرسال» شمال لبنان على الحدود مع سوريا، ومن حولها أطفالها الثلاثة يبكون.. يرتجفون من البرد، وبقربهم مجموعة

أكياس جمعوا فيها ملابسهم، حيرة تتملك الأم.. فليس معها ما تستطيع به إيجار خيمة.. فقط خيمة تؤويها هى وأطفالها من توحش الشتاء.
تتمتم: «كان أشرف لنا الموت فى سوريا بدل الذل فى عرسال، هنا الشيء الوحيد الذى لا ندفع ثمنه هو النفس اللى نتنفسه فكل شىء بمقابل مادى، ابتداء من إيجار الخيمة، مرورا باشتراكات الكهرباء والمياه ومعظم النازحين لا يملكون حق رغيف عيش حتى ندفع كل هذه الأموال ليكون مصيرنا الطرد من الخيام فى الصحراء».
نزحت «أم ملك» من منطقة القصير السورية فى الرابع والعشرين من يونيو عام ٢٠١٣ بعد أن قصف منزلهم، تروى رحلة اللجوء إلى مدينه عرسال شمال شرق لبنان، وعيناها تمتلئان بالحسرة قائلة: «سلكنا الجبال للهروب من الموت سيرا على الأقدام، ثلاث ليال بدون خبز أو مياه كانت رحلة شاقة رأينا فيها الموت، ما بين الحين والآخر تضربنا قذيفة ويسقط أمامنا قتلى، تركنا جثثهم ما بين الجبال ولم نتمكن من دفنهم، بينما المصابون حاولنا حملهم إلى أن وصلنا إلى عرسال بلبنان.. كنا نظن أننا نجونا من الموت، ولم نكن نعلم أننا وصلنا إلى الحجيم بعرسال فى ظل تحديد إقامتنا داخل المخيم، فنحن ممنوع علينا التجول بعيدا عن المخيمات طالما أنك نازح سورى فممنوع من الحياة»!
وتابعت: «يوم نجد خبزا نقسمه علينا ويوم منلقيش أكل.. بنضطر من أجل البقاء نشترى بقايا الخضرة التى لا تصلح طعاما لحيوان.. لأن مرتب المفوضية لا يكفى لشراء سلة خبز تكفى لـ٥ أشخاص ولا توجد فرص عمل للنازحين حتى نستطيع أن نعول أسرنا.. فكل شىء محرومون منه حتى المياه، فالخزان يشترك فيه من٤ ـ ٦ أسر والخزان ملوث والمياه غير صحية، ولكننا نضطر للشرب منه لأننا معناش حق الخبز حتى نشترى مياهًا صحية وكل ليلة نسمع إصابات بالمعدة بسبب المياه الملوثة».

اللاجئون السوريون
حال «أم ملك» المأساوى لا يختلف عن حال ١٥٠ ألف شخص نزحوا من مدينة القصير والقلمون السورية والريف الحمصى منذ بدء العمليات العسكرية التى شنها الجيش السورى والقوات المساندة لها ضد تنظيم «داعش»، إلى «عرسال» اللبنانية، التى تضم قرابة ٨٠٠ مخيم يحتوى كل مخيم على ما لا يقل عن ٢٠٠ أسرة، بحسب إحصائيات المفوضية العليا لشئون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، يعيشون ما يقرب من الثلاثة أعوام فى إمبراطورية صحراوية قاحلة، وعلى أرض غرقت على ما يبدو فى غياهب النسيان، حيث اختفت بالمخيمات أبسط مقومات الحياة.
عند مدخل مخيم «السلام» للاجئين السوريين فى بلدة عرسال اللبنانية الحدودية، تستقبلك روائح البرك والمستنقعات لتضيف معاناة جديدة لللاجئين.
ويشير «أبوعبدالله» إلى أن نظام الصرف الصحى فى المخيمات يعتمد على سحب المياه من حفر الصرف الصحى مرة أسبوعيا بتكلفة عالية، وبسبب عدم قدرتنا على تحمل تكلفة شفط المياه، باتت المخيمات تعيش وضعا صحيا سيئا جدا، ناهيك عن انتشار الأوبئة.
قصص المخيمات بـ«عرسال» متشابهة غالبا، فالجميع يجمعهم الهروب من جحيم الموت لينتقلوا إلى مرحلة أسوأ منه بمخيمات عرسال.
«رابحة» سيدة سورية أم لثلاثة أولاد، تحاول توفير قوت يوم أولادها بشتى الطرق دون جدوى قالت لـ«البوابة»: «راتب المفوضية لا يكفى لشراء طعام يسد جوع أسرتى، أضطر لشراء برغل أو عدس لأنه رخيص، وبيسد الجوع رغم أنه غير محبب لأولادى ولكنهم لا يجدون البديل فيضطرون لأكله من أجل البقاء.. كثيرا يشتهون أكلات ولكن ليس معنا المقدرة لتوفير الطعام فى ظل إيجار خيمة بـ١٠٠ دولار فى الشهر.
«رابحة» لديها شاب يبلغ من العمر ١٣ عاما أصيب بقذيفة فى صدره، كان متفوقا دراسيا، وكان يحلم بيوم تخرجه واستكمال دراسته ولكن هنا فى «عرسال» تخلى عن حلمه ليبيع بطاطا من أجل ألف ليرة لشراء رابطة خبز لعائلته، وتضيف وهى تبكى: «كنت بحلم أشوف ابنى دكتور والتانى مهندس، ولكن الزمن سلب منا حق الحلم ولم نعد نتمنى سوى الرجوع إلى سوريا.. لسنا بحاجة إلى شيء سوى الرجوع إلى بلدنا».
وعن المياه الملوثة بـ«عرسال» تروى «رابحة» أنهم مجبرون على الشرب والطبخ منها، بعد غليها أكثر من مرة أو وضعها فى الشمس حتى تقتل الجراثيم بها، ومن حين لآخر يسقط مرضى بسبب المياه أو التلوث، ولا يستطيعون إسعافهم خاصة أن الإمكانيات الطبية متوفرة خارج «عرسال»، ويشترط للخروج أوراق هوية فضلا عن مصاريف التنقل والعلاج وإن وجدت أوراق الهوية، لا يجدون تكلفة التنقل فما بالك بحق الكشف الطبي، مشيرة إلى أن اللاجئ السورى فى «عرسال» فى سجن مفتوح وحصار دائم.

اللاجئون السوريون
يغربل القمامة بيديه كل صباح ومساء، نفايات المحلات التجارية يجمعها أمامه، يقلبها قبل نقلها إلى سيارة النفايات، يتنقل سريعًا بين أكياسها الصغيرة باحثًا عن فضلات طعام أو بقايا زجاجات ماء أو مشروب غازي، هذا حال «محمد» ١٣ عاما، وحال أقرانه الذين يعيشون وعائلاتهم منذ عدة أشهر فى المخيمات.
تحدث «محمد» لـ«البوابة» قائلا: «جينا إلى «عرسال» مع أسرتى نازحين من مدينة القلمون السورية، هربا من الرصاص وقصف الطائرات، الآن نحن هنا بلا مسكن ولا مدارس، فقط نأكل ونشرب من القمامة ثم ننام فيها».
عشرات الأسر، التى نزحت إلى عرسال، هربا من ويلات الحرب، يطالبون المنظمات الدولية بسرعة الاهتمام بهم ومساعدتهم على الحصول على الغذاء قبل أن يفتك الجوع بهم أو الأوبئة والأمراض، يقول «على حسان»، رب أسرة لـ«البوابة»: «لم أكن أتوقع وصول الوضع إلى ما هو عليه الآن، سنظل نناشد المنظمات الإنسانية إلى أن تلتفت إلى حالنا، وحتى ذلك الحين نحن نبحث عن لقمة فى بقايا القمامة، تفتك أمراض الحمى، والجرب، والملاريا، وغيرها من الأوبئة بنا، وما دفعت به منظمة الصحة العالمية من مساعدات محدودة لا يكفى لعلاج المصابين بمرض الفشل الكلوي، أو التطرق حتى إلى فكرة معالجة المصابين بالسرطان».
بينما قالت «فوزية حفوش» من منطقة القصير بسوريا، تعيش بخيمة فى مخيم مع زوجها ووالدتها وحماتها وأولادها: «نحن سجناء فى عرسال.. ممنوع علينا التحرك إلا بعد استخراج كارت أحمر للعبور داخل لبنان، وهذا يتطلب أموالًا طائلة بالإضافة إلى تكلفة المواصلات التى لا تقل عن ٤ آلاف ليرة، وإن وجدت الأموال فلا توجد أوراق هوية تثبت شخصيتنا لاستخراج كارت العبور، والذى بموجبه تستطيع علاج أولادك خارج «عرسال» التى تفتقر لأبسط الإمكانيات الصحية وبالتالى فمصيرنا الموت فى الحصار من الجوع أو من المرض».
وأوضحت «فوزية» أنها أصيبت بالجرب من مياه الصرف الصحى التى تتسرب إلى الخيم وهم نائمون، بالإضافة إلى نزول الأمطار داخل الخيم الهزيلة التى لا تحمى من الصقيع.
واختتمت معاناتها باستغاثة: «بوجه رسالة لكل حد عنده إنسانية ينقذنا من السجن والحصار فى «عرسال» لا نطلب أى شيء سوى العودة إلى سوريا».

اللاجئون السوريون
مدير المخيم يعانى
فى مخيم صغير داخل «عرسال» أطلقوا عليه «من هنا مر السوريون»، هناك ٣٥٠ خيمة بها ١٥٠٠ شخص، بحسب ما حصلت عليه محررة «البوابة» من أبوجعفر مدير المخيم الذى قال: «النازحون لجأوا إلى لبنان الشقيقة فى مخيلتهم أنهم أهلهم ولكن فوجئنا بهم يؤجرون لنا الأرض لبناء مخيمات عليها، فى أول سنة بألف دولار ثم ارتفع إيجار السنة الثانية إلى ٤ آلاف دولار، ثم إلى ٦ آلاف دولار، تكلفة الإيواء فى خيمة هزيلة لا تحمى من برد الشتاء، علاوة على رسوم اشتراكات الكهرباء»، مضيفا: «لا يوجد لدينا حمام، أقضى حاجتى الآن فى العراء وأكبر أمنياتى ألا يرانى أحد، هذا شعوري، فبماذا تشعر أمى وأختى وزوجتي؟!، وإذا ما أرادوا أن يستخدموا الحمام فعليهم الذهاب للمخيم المجاور فهناك ١٠ حمامات يشترك به أكثر من مخيم وكل مخيم لا يقل عن ٢٠٠ أسرة.

اللاجئون السوريون
البرد يقتل الأطفال
عن ضحايا الطقس القارس قال «محمد أبورعد»، مدير مخيم النخيل بـ«عرسال»،: «توفى ثلاثة أطفال ورجل مسن بسبب البرد نهاية الشهر الماضي، بعد العجز عن توفير «مازوت» لإشعال المدفأة، فمفوضية الأمم المتحدة توزع على كل مخيم ١٠ لترات مازوت لا تكفى نهارا واحدا»، مضيفا: « فى اليوم الأول من موجة الثلج، جرفت السيول خيم اللاجئين السوريين، وأصبحت المخيمات عبارة عن ماء ووحل، استطاع الأهالى أن يحافظوا على حياة أطفالهم بصعوبة، بحرق الملابس والحطب فى سبيل ردع البرد، لكن السماء كانت أكثر قسوة، وبدأت موجة ثلجية قوية، ولم يتبق ما يمكن حرقه إلى أن توفيت الطفلة الرضيعة «سماهر العريض» لتكن أولى ضحايا البرد القارس الذى ضرب المخيم أكثر من ١٥ يومًا».
ويؤكد الدكتور ياسر حسين، مدير الهيئة الطبية بـ«عرسال»، أن الحالات التى تم رصدها فى مستشفى الهيئة الطبية تؤكد موت ثلاثة أطفال خلال شهر ديسمبر ٢٠١٦ ويناير ٢٠١٧، بسبب إصابتهم بالتهاب بالرئة جراء البرد القارس، كما أن هناك طفلة ماتت بسبب منع ذويها من المرور خارج «عرسال» لعلاجها.
«بخاف من المطر».. رددها «جاسر، ١١ عامًا» وهو يرتعش قائلا: «صحيت لقيت المياه غرقتني، عظمى لا يزال باردا، ارتدى ملابسى كلها وما زلت أشعر ببرد».
«أبويحيى» بصوت مبحوح بالألم والحسرة: «ابنتى تصارع الموت بعد رفض الجيش اللبنانى الخروج بها من «عرسال» ونقلها إلى مستشفى مجهز لعلاجها بسبب ضياع كل الأوراق التى تثبت هويتنا فى الحرب، متسائلا: ما ذنب الطفلة؟!..لقد هربنا من الحرب بسوريا بدون أى أوراق تثبت هويتى أو هوية أولادي.
وأضاف: «الأطباء بمركز الأمل الطبى بعرسال شخصوا حالة ابنتى بالتهاب سحائى يلزمها العلاج خارج عرسال، وبعد أن تم توفير تكلفة علاجها من أهل الخير تم منعنا من العبور خارج حواجز الجيش بسبب عدم وجود شيء يثبت هوية ابنتى بالإضافة إلى تهديدات بالاعتقال فى حال التفكير فى المرور مرة أخرى».
ويقول «نادر الحمصي»: «دخلت الأراضى اللبنانية منذ أربع سنوات، فى البداية أعطتنا السلطات إقامة لمدة ستة أشهر، وبعدها جددت لنا الأوراق لمدة سنة واحدة، لكننا اليوم فى ورطة كبيرة فى ظل القوانين الجديدة، موضحا أن لبنان فرضت سلسلة من التغييرات فى السياسات المتعلقة باللاجئين، أدت إلى فرض المزيد من القيود على تدفق اللاجئين وشروط إقامتهم وإمكانية دخولهم إلى سوق العمل، على سبيل المثال، سنت الحكومة اللبنانية قوانين تقيد عملية الدخول إلى البلاد وكذلك فرص العمل المحتملة للاجئين السوريين، شملت هذه القوانين قانونا جديدا للإقامة يشترط على اللاجئين دفع ما يقدر من ٢٠٠ دولار للشخص الواحد كل ستة أشهر للحصول على تصريح بالإقامة».
ويضيف: «لدى ستة أولاد وعلى دفع مئتى دولار أمريكى عن كل شخص، وهذا مبلغ صعب علينا جدا، علاوة على دفع إيجار الخيمة التي نعيش بها وتأمين لقمة العيش، وفوق هذا كله، عليك أن تبحث عن الكفيل اللبنانى ومعظمهم يتهربون من الكفالة».
ويشرح نادر الإجراءات الواجب اتباعها لإنهاء تجديد الإقامة لأى لاجئ يقطن بلبنان، فيقول: «عليك بداية أن تؤمن الإفادة العقارية للأرض، ثم إفادة سكن ثم تعهد سكن، وتعهد آخر عند كاتب العدل بأن اللاجئ السورى الفلاني، يعمل فى أرض اللبنانى الفلانى ويسكن عنده، بعد ذلك تجمع هذه الأوراق ويصادق عليها».
ويضيف: «عند الأمن العام لا يمكن للبنانى الكفيل أن يكفل عددا كبيرا ضمن مساحة أرض معينة، لأنه قد توجد فى قطعة أرض صغيرة أكثر من عشرين عائلة فى خيام، وبالتالى سيضطر بعضهم لتأمين مكان آخر وكفيل آخر»، لافتا إلى أن الكثير من اللبنانيين ممن يؤجرون للسوريين يتهربون من الكفالة خوفا من الدخول فى الإجراءات القانونية، وبذلك يقع اللاجئ بحالة صعبة ويضطر للمكوث فى المخيم، قائلا: «تخيل أن ولدك مريض وتريد نقله للمشفى ولا تستطيع، خوفا من الخروج من المنزل ويتم اعتقالنا بسبب عدم حيازة أوراق رسمية».
العبور بـ«الدولارات»
هناك إجراءات إضافية تفرض على اللاجئين السوريين بالمخيمات، فتفرض عليهم قوانين للتحرك داخل لبنان، حيث يشترط إصدار كارت أحمر للعبور خارج حدود المخيمات بعرسال، ومدة صلاحيته ثلاثة أشهر فقط يعاد تجديدها، ولاستخراج هذا الكارت لا بد من تقديم أوراق الهوية بجانب دفع مبالغ طائلة، كى تشعر أنك إنسان حر تستطيع الخروج من سجن «عرسال»، الذى يفتقر إلى أبسط مقومات الحياة، ولكن هناك عراقيل تواجه اللاجئين السوريين، فمن يمتلك أوراقًا ثبوتية لا يمتلك تكلفة إصدار كارت العبور، ومن يستطيع إصداره مرة لا يستطيع تجديده مرة ثانية بسبب التعسف الأمنى ليكتب على اللاجئين السوريين السجن طيلة حياتهم داخل المخيمات».
«محمد غازي» لاجئ سورى من منطقة القصير قال لـ«البوابة»: «بيتى تعرض لقصف طائرات، وانهدم وضاعت معه كل أوراقنا الثبوتية.. هربنا إلى منطقة «الفتح» مرورا بالجبال، التى شهدت سقوط العديد من الجرحى بعد أن سقطت علينا صواريخ وكان القصف علينا مستمرا، إلى أن وصلنا إلى «عرسال بلبنان» التى فرضت علينا حصارا وسجنا دائما»، مؤكدا أن ٩٠ فى المئة من النازحين ضاعت وثائقهم وممنوعون من الخروج من المخيمات، هربنا من الموت بسوريا إلى عرسال لنفاجأ بالموت كل دقيقة من حصار غذاء وشرب وعلاج».

بوابةُ الموت
على مدخل مدينة «عرسال» الحدودية بوابة عبور، تسمح للمارة بالدخول إلى باقى مدن لبنان، بها نقطة تفتيش رئيسية للجيش اللبناني، رصدت كاميرا «البوابة» أن هناك مكتبًا خاصًا لتفتيش السوريين فقط، كما رصدت أن المارين من البوابة سيدات أو أطفال فقط ولا يوجد ذكور، وعندما حاولنا التقصى عن الأسباب قالت صبحية محمد: «الجيش اللبنانى يعتقل أى ذكر يجرؤ على العبور من البوابة متجها إلى المستشفيات بلبنان، حتى ولو معه جميع الأوراق التى تثبت هويته».
وأضافت «صبحية»: «فى حالة مرور السيدات من البوابة يتعرضن لتفتيش سريع وإهانات جارحة ولكن عليها أن تتقبلها فى صمت رغبة فى الخروج من عنق الزجاجة، شعورنا بأن لا شيء يستحق التفكير فيه، بل لم يعد لكرامتنا أى ثمن، مقابل أن نجتاز حواجز الجيش اللبنانى، لم يكن هناك شيء يهمنا فى ظل مستقبل لا تظهر ملامحه أبدا».
بوابة المرور من وإلى «عرسال» تعد بوابة الحياة للاجئين السوريين، هروبا من السجن والحصار، فبمجرد مرورك منها تجد مقومات الحياة، ولكن التعقيدات التى تفرض على اللاجئين تدفعهم إلى المكوث فى سجن المخيمات، خوفا من الاعتقال أو المهانة.

اللاجئون السوريون
مرمى النيران
يقول «فارس مصطفى»: «ظننت أن المصاعب أصبحت وراء ظهري، بعد أن تخطيت الحدود السورية اللبنانية هربا من «حمص»، لكنى اصطدمت بواقع مرير فى «عرسال»، إذ رغم مرور عام على وصولى إليها مع عائلتى المكونة من خمسة أفراد، فإن الحال ظل كما هو، بل إن المستقبل بدا مظلما، وخاصة بعدما وصلتنا أنباء عن تقدم مجموعات إسلامية مثل جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية من سوريا تجاه الجبال المحيطة بعرسال».
ولعل دخول عناصر من هذه التنظيمات فى أغسطس الماضى إلى عرسال، واشتباكها مع الجيش اللبنانى فى أنحاء المدينة، فاقم معاناة اللاجئين بعد أن وجدوا أنفسهم فى مرمى النيران، حيث أكدت إحصائيات «هيئة الإغاثة الإنسانية الدولية» تضرر ٥٦ مخيما واحتراق ٦ مخيمات بشكل كامل، ما أدى إلى تأذى ٨٢٢ خيمة بالكامل، و٦٠٠ خيمة بشكل جزئي.
ويضيف فارس: «اضطررنا للهرب بعد إطلاق الجنود النار على المخيم، ومن بعيد رأيت خيمتنا تحترق.. خمسة أيام ونحن نكافح للبقاء على قيد الحياة. اختبأنا فى بناية مهجورة، بدون ماء أو طعام، أولادى طالبونى بالطعام وبكوا من شدة الجوع والعطش، إلا أننى أخبرتهم أننى لو خرجت من البناية، فسيصيبنى الرصاص».
ويختتم «فارس»: «وبرغم ما رأيناه.. حملنا الجيش اللبنانى مسئولية كل ما جرى. اتهمونا بالتعاون مع الجهاديين، وقبضوا على العديد منا للتحقيق معهم».

اللاجئون السوريون
الخروج المستحيل
ليس فارس وعائلته وحدهم من يعانون فى «عرسال»، فكثير من اللاجئين فى المخيم مثلهم، «سمر» تتساءل: «كيف سنتمكن من اجتياز الشتاء؟.. لا يوجد لدينا طعام أو وقود للتدفئة، أو بطانيات كافية، لا نملك أحذية لأطفالنا ولا نستطيع الخروج بحثا عن عمل لتوفير قوت يومنا أو تكلفة مازوت للتدفئة، زوجى أصيب بشلل نصفى بعد تعرضه لجلطة دماغية العام الماضي، فلا يستطيع توفير الطعام لنا.. ماذا نفعل هناك موت وهنا موت».
وفى خيمة مجاورة لسمر، يبكى أبوأحمد قائلا: «نحن اليوم لاجئون فى كل مكان. نحن من هربنا من هذه الحرب المجنونة التى بدأها نظام مجنون منعنا من أن نطالب بحريتنا. نحن هاربون من كل شيء، لكن يبدو أن هذا الألم لا يكفينا، فنحن ـ الهاربين من كل أنواع الموت ـ علينا أن نثبت حسن نيتنا وحسن أخلاقنا فى كل دقيقة وفى كل ثانية كى لا يخافنا العالم، فنحن سوريون قادمون من بلاد الحرب، نحن من فقدنا عائلتنا نعاقب على ضياع هويتنا.. العالم لم يكن عادلا معنا فى حربه علينا كما لم يكن عادلا معنا فى مواساته لنا».
صفة لاجئ «شبهة»
الاختيار بين الموت والموت، أمر مروع، لكن هذا هو الخيار الذى تعرضه لبنان على أكثر من ٣٥٠ ألف لاجئ سوري، قيل لهم أن يختاروا بين الشقاء فى السجن لأجل غير مسمى بدون تهمة، أو العودة إلى سوريا ومواجهة الموت.
وفى لبنان حاليا ٥٨٠ لاجئًا سوريا فى السجن، منهم نحو ٤٢٢ شخصا أنهوا فترة العقوبة، ولكن ظلوا فى السجن وفقا لإحصائيات المفوضية لشئون اللاجئين بعرسال، وليس فى لبنان قانون لاجئين، وتعامل غالبية السوريين باعتبارهم مهاجرين غير شرعيين، ومن يلقَ القبض عليه يصبح عرضة للحبس والغرامات، لكن بعد انتهاء فترة العقوبة فى السجن لكونهم فى البلاد بشكل غير قانوني، يرفض الأمن العام اللبنانى إطلاق سراحهم، ويمكن لغالبيتهم الخروج من الاحتجاز فقط بالموافقة على العودة إلى سوريا، حيث فرضت لبنان بتعقيد الإجراءات الحدودية لدخول السوريين إلى لبنان بحجة أن اللاجئين يمثلون تهديدًا محتملًا للاستقرار.
ولا تقتصر المشكلات على نسبة قليلة كان من سوء طالعهم أنهم اعتقلوا، ففى ظل خيارات قليلة تسمح لهم بتنظيم وضعهم، يعيش غالبية السوريين فى خوف من الاعتقال، وقال رجل سورى عجوز يدعى عبدالحكيم موسى: «حين نخرج لا نعرف إن كنا سنعود.. وحين أرى شرطيًا أو شخصًا من السلطات أشعر بخوف بالغ، رغم أننى عجوز ومريض.. وكلّما واجهتنا نقطة تفتيش يمكن أن يلقى القبض علينا»، مشيرا إلى أن الغالبيّة من اللاجئين رهن الاحتجاز، وغير معترف بهم رسميا كلاجئين ومحظور عليهم العمل.. وقد نفدت مدخرات الكثيرين منهم، وهم عرضة للاستغلال والإساءة من قبل أصحاب العمل، فضلا عن حرمان الأطفال من المدارس بسبب اشتراط تقديم أوراق الثبوتية، بالإضافة إلى مصاريف الدراسة المرتفعة مع ازدياد تدهور أوضاعهم وضيق الحال.
ويضيف: «نعيش فى رعب.. وكل ما نطلبه، التزام لبنان بدورها كعضو فى المجتمع الدولى، فعليها إمداد اللاجئين السوريين ببعض الحقوق والتى فى مقدمتها الحق فى عدم الإعادة القسرية إلى المخاطر من جحيم الحرب بسوريا، وهو الحق فى عدم الإعادة إلى حيث يواجه الشخص الاضطهاد أو التعذيب أو الموت.. موضحا أن السلطات اللبنانية تكره اللاجئين السوريين على اختيار العودة إلى سوريا، بدءًا من اعتقال اللاجئين الذين ضاعت كل أوراق هويتهم فى الحرب ثم احتجازهم، ثم تخييرهم بين الاحتجاز والعودة إلى سوريا أو البقاء رهن الاحتجاز لأجل غير مسمى، بهذا يمارس لبنان عمليا الإعادة القسرية، ما يعنى انتهاك القانون الدولي.

اللاجئون السوريون
حلم أطفال المخيمات
«متى سنعيش فى بيت يا أمى له سقف ينسينا برد الخيام»؟.. «ولاء» عشر سنوات تسأل أمها.. تلك الطفلة التى نزحت مع عائلتها من بلدة منطقة القصير السورية، بعدما دمرتها الحرب، من خلال استهدافها اليومى بالطيران والصواريخ، تعيش الطفلة «ولاء» فى مخيم «عرسال» الحدودي، مع أمها وأبيها وأخيها الصغير على الحدود مع سوريا شمال شرق لبنان تقول «ولاء»: «عمرى ١٠ سنوات، ولقد نزحنا من بلدتنا عندما كان عمرى سبع سنوات، ونحن نقيم بالمخيم منذ ثلاث سنوات، ولا أتذكر أى شيء من بلدتنا سوى صوت البراميل والصواريخ.. لما نسمع أصواتهم أمى تحضنى أنا وأخى وتبكى وأقول لها متخافيش الموت أرحم من الذل فى أى مكان خارج بلدنا، تركنا والدنا وكنت أشتاق إليه إلي أن سمعت أنه جاء إلى «عرسال» مصابا بقذيفه حضنته ولم أصدق أنى رأيته حيا».
والدة «ولاء» تقول: «لقد نزحنا من البلدة عندما كان ابنى فى الرابعة من عمره، وهو لا يتذكر سوى مشاهد القصف والدمار، وهو يسألنى دائما: «أمى متى أرجع ع بيتنا بالضيعة» وأحيانا يرتجف خوفا ويقول: «لا أريد العودة إلى القرية لأنى بخاف أسمع صوت البراميل».
أما ولاء فتتذكر أحداث القصف المستمر لمدرستها والتى تسببت فى انقطاعها عن الذهاب إلى المدرسة خاصة بعد موت صديقتها «رهف»، وتقول باكية: «اشتاق إليك يا رهف ونفسى أرجع العب معاكى تانى فى سوريا».
والد «ولاء»: «ابنتى كانت تحب الدراسة، وكانت تتمنى أن تصبح فنانة تشكيلية، وكنت أود تحقيق حلمها وتأمين مستقبلها ولكن مصاريف التعليم بلبنان مرتفعة جدا، ونحن لا نملك تكلفه الخبز، مؤكدا أنه يمتلك الأوراق الثبوتية التى تقف عائقًا أمام النازحين فى حالة فقدانها فى الحرب، ولكن مصاريف الدراسة عقبة تواجه أغلب النازحين».
حال «ولاء» هو حال مئات الآلاف من الأطفال السوريين الذين يعيشون فى المخيمات، ولا يتذكرون سوى قصف منازلهم وهربهم منها، ويمثل الأطفال أكثر من نصف عدد اللاجئين السوريين، حسب إحصاءات الأمم المتحدة.

JoomShaper