ريف حلب الشماليّ، سوريا – يتجمّع عشرات الأطفال الأيتام حول علاء الدين عبيد (50 عاماً) في الساحة المخصّصة للّعب في دار الأيتام في مدينة إعزاز، عند الساعة الرابعة عصراً بعد انتهاء الدروس في مدرسة الدار. يطرح الأطفال الكثير من الأسئلة دفعة واحدة، ويحاول عبيد الإجابة عن أسئلتهم الفضوليّة، بينما ترتسم على وجهه الذي غلبت عليه التجاعيد ابتسامة الأب الحنون.
بإختصار⎙ طباعة تقدّم دار الأيتام في إعزاز في ريف حلب خدماتها إلى مئات الأطفال السوريّين الذين فقدوا أسرهم بسبب الحرب الدائرة في سوريا منذ ستّ سنوات تقريباً.
يضرب عبيد كفّيه مصفّقاً، ويقول للأطفال المتحلّقين حوله: "حان وقت اللعب الآن، لديكم ساعة لكي تلعبوا فيها وبعدها سوف يحين الوقت المخصّص للمطالعة. أرجو التزامكم بالمواعيد المحدّدة". عبيد الذي يعمل مشرفاً في دار الأيتام في إعزاز يقضي معظم وقته في خدمة مئات الأطفال المقيمين فيها، وقليلاً ما يذهب إلى منزله.
تقع دار الأيتام في مدينة إعزاز الواقعة في ريف حلب الشماليّ، وهي أكبر مدن ريف حلب الشماليّ الخاضعة إلى سيطرة المعارضة المسلّحة، من حيث عدد السكّان والمساحة، إضافة إلى أنّها أصبحت ملاذاً لآلاف النازحين السوريّين. وتتمتّع إعزاز
التي تبعد عن مدينة حلب إلى الشمال 50 كلم، بالأمان النسبيّ نظراً إلى قربها من الحدود السوريّة–التركيّة، ووعد تركيا بحمايتها، حيث تبعد مدينة إعزاز عن الحدود التركيّة 5 كيلومترات فقط.
وخلال زيارة "المونيتور" إلى دار الأيتام في إعزاز، تمكّنّا من التجوّل في أقسامها، برفقة المشرف علاء الدين عبيد الذي شرح برنامج العمل اليوميّ في الدار، والخدمات التي تقدّمها. وقال عبيد لـ"المونيتور": "هناك زيادة مستمرّة في أعداد الأطفال الأيتام الراغبين في الحصول على خدمات الدار، من أبناء المدينة ومن النازحين المقيمين فيها، ومن القرى والبلدات المحيطة بها، ومن المخيّمات الواقعة قرب المدينة".
ويضيف عبيد: "700 طفل وطفلة يحصلون على خدمات من دار الأيتام في إعزاز، قسم منهم مقيم في الدار في شكل دائم، ويبلغ عددهم 300 طفل ذكر، أمّا الأطفال الباقون وهم أغلبهم من الإناث فيحصلون على الخدمات التعليميّة والصحّيّة من الدار ولكن لا يقيمون فيها، وتعمل الدار على إنشاء قسم خاصّ بالإناث، نأمل أن يصبح جاهزاً مع بداية العام المقبل 2018".
وقال عبيد: "الخدمات والنشاطات التي تقدّمها دار الأيتام هي قسمين، الأوّل يحصل عليه الأطفال الأيتام من مقرّ الدار، ويشمل التعليم، والصحّة، والطعام، والنشاطات الرياضيّة والفنّيّة والترفيهيّة، والإقامة، أمّا القسم الآخر فهو رعاية أسر الأيتام من خلال تقديم كلّ ما يلزمها من إعانات غذائيّة ومادّيّة، فضلاً عن مشروع الكفالات التي بدأت به الدار من حوالى سنتين، وما زالت تتابعه بالتعاون مع منظّمات وجمعيّات خيريّة، وتعتمد دار الأيتام في إعزاز على المشاريع الوقفيّة التابعة إليها، والمبادرات الخيريّة التي تقدّمها الجمعيّات الخيريّة المحلّيّة ومن خلال التبرّعات الفرديّة". تعتمد الدار على مشاريع الوقف الإسلامي التابعة لها، كذلك على الهبات التي تقدمها الجمعيات ومن تبرعات الأفراد أيضاً لكي تغطي احتياجاتها وتستطيع تقديم الخدمات وتمنح كفالات مالية لأسر الأيتام وتدفع رواتب موظفيها.
وأضاف عبيد: "يعود تاريخ إنشاء دار الأيتام في إعزاز إلى عام 1945، لكنّها لم تكن تستوعب هذا العدد الكبير من الأطفال قبل اندلاع الثورة السوريّة إذ كان عدد الأطفال التي ترعاهم الدار قبل الثورة لا يتجاوز 50 طفلاً فقط. فمنذ عام 2012، بدأ عدد الأطفال في الدار يزيد مع زيادة أعمال العنف، وتوسّع دائرة الحرب السوريّة، والقصف العنيف الذي شنّه النظام على المناطق السوريّة التي خرجت عن سيطرته في سوريا عموماً، وفي محافظة حلب خصوصاً، ممّا تسبّب في مقتل عدد كبير من المدنيّين، منهم أباء وأمّهات تركوا وراءهم أطفالاً، وهم لا يزالون في عمر يحتاجون فيه إلى العطف والحنان والتوجيه، ويحتاجون إلى رعاية وإعاشة".
(يقول مجلس الإدارة في الدار أنها لم تجري أي توسعات في الدار، ولم تبني مباني جدية، واقتصرت الأعمال فيها على إعادة ترميم المرافق الصحية والحمامات داخلها، كذلك تم تزويد قسم الترفيه فيها ببعض الألعاب.
يقول عبيد: "تحتاج الدار إلى طبيب نفسيّ ومرشد، ليساعدا الأطفال الذين لديهم مشاكل نفسيّة، وهذا جزء من طموح الدار لزيادة خدماتها وتطويرها، حيث تختلف ردود أفعال الأطفال ووضعهم النفسيّ بعد مجيئهم إلى الدار. فقد كانوا يعانون من مشاكل نفسيّة بسبب فقدان أحد آبائهم أو كليهما بحسب أعمارهم، ووجدوا صعوبة في التأقلم مع من حولهم، وكانت تصرّفاتهم غير مألوفة، ويفضّلون الجلوس بمفردهم، ولا يشاركون أقرانهم في الدروس، ومن هنا كانت مسؤوليّتنا كبيرة من أجل مساعدة هؤلاء الأطفال ودعمهم نفسيّاً ومعنويّاً، ريثما ينضجون ويتمكّنون من تجاوز هذه المحنة، والآثار السلبيّة المترتّبة على فقدانهم أسرهم، وإذا تمكّنّا من الحصول على مرشد نفسيّ، أو طبيب، يمكن أن يحمل عنّا جزءاً كبيراً من المسؤوليّة ويحقّق نجاحاً أكبر في مساعدة هؤلاء الأطفال".
ما تزال الذكريات المؤلمة ترافق عماد الدين (12 عاماً)، على الرغم من مضي عامين على مقتل والده وثلاثة من إخوته كانوا يقاتلون في صفوف الجيش السوريّ الحرّ في مدينة حلب. قتلوا بعدما تعرّضوا إلى قصف جوّيّ استهدف موقعهم في شرق المدينة في نهاية عام 2014. عماد الدين وخلال لقائه "المونيتور"، قال: "أتيت مع أمي إلى مدينة إعزاز في ريف حلب الشماليّ منذ بداية عام 2015 بعدما قتل والدي وإخوتي بفترة قصيرة، وأنا منذ ذلك التاريخ أقيم في الدار، بينما تسكن أمي في بيت للإيجار في المدينة مع ثلاثة من إخوتي الصغار، أتمنّى أن نستطيع في يوم من الأيّام الرجوع إلى بيتنا في حلب القديمة، إلى حارتنا التي تدعى ساحة الملح".
يبدو عماد الدين راضياً عن الخدمات التي يحصل عليها من دار الأيتام في إعزاز، ويقول إنّ المعلّمين والمشرفين في الدار يعاملونهم بلطف، ويحثّونهم على المطالعة، والتعلّم، لكي يصبحوا أفراداً صالحين في المجتمع.
خلّفت الحرب السوريّة مئات الآلاف من الأطفال الأيتام على مدار السنوات الماضية، منذ اندلاع الثورة السوريّة، وأصبح الخوف كبيراً من أن يتمّ تجنيدهم في صفوف الأطراف المتقاتلة. الأطفال السوريّون عموماً، من الأيتام أو من غيرهم يخشى عليهم من الانخراط في العمل المسلّح، ومن هنا يبرز الدور الكبير لدور الأيتام التي تعمل على تحسين ظروف الأيتام المعيشيّة، وتعيدهم إلى مقاعد التعليم، وتؤمّن حاجاتهم، حتّى يصبحوا قادرين على الاعتماد على أنفسهم. وقد تمّ افتتاح دار أخرى للأيتام في ريف حلب في مدينة جرابلس برعاية جمعية خيرات التركية في 14 تشرين الأوّل/أكتوبر 2016، وذلك لاستقطاب عدد آخر من الأطفال الأيتام.
التقى " المونيتور " توفيق حسانو، وهو عضو مجلس إدارة دار الأيتام في إعزاز، قال : "تعتمد الدار مع معلمين متعاقدين معها من أبناء مدينة إعزاز، وتقوم الدار بتدريس المنهاج الذي تدرسه المدارس العامة التابعة لمديرية التربية التابعة للمعارضة، ويقدم بعض المتطوعين خدماتهم بين الحين والآخر من خلال برامج ترفيهية تقدم للأطفال في الدار".
ويضيف حسانو "دار الأيتام بحاجة مزيد من المعلمين من مختلف الاختصاصات لافتتاح صفوف جديدة، حيث تعاني مدرسة الدار من عدد الطلاب الكبير في صفوفها، ويؤكد أن الدار تواجه صعوبات في دفع رواتب المعلمين ولا تستطيع الآن توسيع الكادر التعليمي". ويشير حسانو إلى أن دار الأيتام في إعزاز هي الوحيدة الموجودة في ريف حلب الشمالي ولذلك يتواجد فيها عدد كبير من الأطفال، ويأمل حسانو أن يتم افتتاح دور رعاية ايتام جديدة في مناطق سيطرة المعارضة بريف حلب في مدن اخرى مثل مدينة الباب، ومارع، وأخترين، وصوران.