لم يتوقع أبو راشد، وهو الرجل المثقّف الواعي الذي يقف إلى جانب المرأة ويناضل من أجل حصولها على كامل حقوقها في الطفولة والحياة والتعليم واللعب، أنه سيوافق يوماً على زواج ابنته القاصر (شيماء)، ذات الـ 16 ربيعاً، والتي رسم لها مستقبلاً علمياً قال عنه إنه سيكون باهراً.
يقول أبو راشد، وهو خمسيني سوري كان يعمل مدرّساً قبل فصله من عمله، إنه كان يرسم في ذهنه مستقبلاً مميزاً لأبنائه وبناته؛ لنبوغهم المبكّر وتفوّقهم في تحصيلهم الدراسي، لكن الحرب المشتعلة في البلاد، والظروف الأمنية والاقتصادية السيئة التي بات يعيشها، أجبرته على اتخاذ قرارات بعيدة كل البعد عن قناعاته الشخصية.
وأضاف لـ "الخليج أونلاين": "بعد أن ساءت أحوالي المادية كثيراً بسبب ملاحقة النظام لي وفقداني لمصدر رزقي الوحيد، وترك أبنائي للمدارس تحت ضغط الحاجة للعمل، وافقت على زواج ابنتي القاصر شيماء للتخلّص من جزء من أعباء نفقاتها ومصاريفها، وللاطمئنان عليها، لأني لم أعد قادراً على توفير الحماية لها في ظل هذه الفوضى التي تعيشها البلاد".
المحامي والناشط الحقوقي، عبد الناصر الحوراني، أكّد من جهته أن "حالة ابنة أبي راشد ليست الحالة الوحيدة لزواج القاصرات في سوريا، بل هي واحدة من آلاف الحالات التي تتم سنوياً داخل سوريا، وفي مخيمات النزوح واللجوء خارجها".
وأضاف لـ "الخليج أونلاين": إن "زواج القاصرات السوريات هو أحد مخرجات الحرب التي تشهدها سوريا منذ أكثر من 6 سنوات، بما جلبته من ويلات وما نتج عنها من مشكلات على المستويات الأمنية والاجتماعية والاقتصادية".
ولفت الحوراني إلى أن "زواج القاصرات كان من الممارسات المحدودة والمستنكرة في المجتمع السوري قبل الثورة السورية، التي انطلقت عام 2011".
وأكد أن "الفقر والبطالة وعدم القدرة على التحصيل العلمي، والظروف المادية السيئة للمواطنين، إضافة إلى عدم الشعور بالأمان، وفقدان قدرة الأهل على توفير الحماية الكافية للفتيات، هي من أهم الأسباب التي تجبر الأهالي على تزويج بناتهم القاصرات في مجتمع كالمجتمع السوري، الذي وصل إلى هذا الحدّ من الفوضى".
وأشار الحوراني إلى أن "القاصر وفق التوصيف الدولي هي كل فتاة لم تبلغ 18 عاماً من عمرها"، مبيّناً أن "الزواج بفتاة دون هذا العمر غير قانوني، ومدان من خلال الاتفاقات الدولية، التي تعتبر زواج القاصرات زواج أطفال".
وأضاف: "وفق المادة 16 من قانون الأحوال الشخصية السوري، الصادر عام 1950، فإن أهلية الزواج للفتى تكتمل ببلوغ الثامنة عشرة من العمر، وللفتاة ببلوغ السابعة عشرة من العمر"، لافتاً إلى أن "المادة 18 من القانون ذاته نصّت على أنه إذا ادّعى المراهق البلوغ بعد الخامسة عشرة، أو المراهقة بعد إكمالها الثالثة عشرة، وطلبا الزواج، يأذن القاضي المختصّ به إذا تبيّن له صدق دعواهما، مشترطاً موافقة ولي القاصر الأب، وإن لم يكن فالجدّ".
ويرى الحوراني أنه "حتى في التشريعات السورية هناك إجحاف بحقّ الطفولة؛ وذلك عندما حدّد القاصر بأقل من 17 عاماً، وأجاز لها الزواج"، مشيراً إلى أن "الأهليّة في الزواج تفترض كمال العقل والبنية والمكوّنات الجسدية، والقدرة على الإنجاب وتربية الأطفال، وهذه الشروط غالباً ليست متحققة في القاصرات".
وتشير مصادر قضائية تابعة لنظام الأسد بهذا الخصوص، إلى أن معاملات زواج القاصرات في دمشق تبلغ معدل 5 معاملات يومياً، أي بنسبة 10% من معاملات الزواج، التي يصل عددها إلى 50 معاملة يومياً"، موضحةً أن "ارتفاع هذه النسبة جاء بسبب الظروف الحالية التي تعيشها البلاد".
أما على مستوى المحافظات السورية، فقد أشارت تلك المصادر إلى أن "معاملات زواج القاصرات وصلت إلى مستوى عالٍ جداً، حيث وصل عدد معاملات تثبيت زواج القاصرات إلى 200 حالة يومياً في جميع المحافظات السورية، هذا عدا عن عدد حالات الزواج العرفي التي لم توثّق؛ لعدم وجود محاكم شرعية في أماكن إتمام حالات الزواج".
أم طارق، وهي أرملة في الخامسة والأربعين من عمرها، أكّدت أنها أُجبرت على تزويج ابنتيها القاصرتين؛ لعجزها عن القيام بواجباتها الأسرية بعد فقدان زوجها في سجون النظام، وموت ابنها الأكبر في إحدى المعارك.
وقالت لـ "الخليج أونلاين": "عندي خمس فتيات، أكبرهنّ 16 و15 عاماً، اضطررت لتزويج ابنتيّ الكبيرتين برجال أكبر منهما سناً، وبعقود زواج عرفية؛ لأني لا أستطيع الإنفاق عليهما"، لافتة إلى أن "الزواج في هذه الظروف (سترة) للفتاة، يحصّنها ويحميها من الوقوع في الخطأ والتعرّض للخطر".
وأشارت إلى أن إحدى ابنتيها رُزقت بمولود، وهي تساعدها في تربيته، في حين أن الأخرى لم تنجب بعد، موضحةً أن "زواج ابنتيها صامد حتى الآن، ولكنه متعبٌ جداً لهما؛ بسبب مسؤولياته الكبيرة، وعدم خبرة ابنتيها بالحياة الزوجية.
في حين أكدت أم سعيد (49 عاماً) أن "زواج الصغيرات لا يستمرّ؛ لأن الفتاة في هذا السن صغيرة ولا تعرف شيئاً عن الزواج"، لافتة إلى أنها "لن توافق على زواج ابنتها مهما كانت الدوافع والأسباب قبل أن تبلغ العشرين على الأقل".
وتقول الباحثة الاجتماعية نهال عبد الوكيل: إن "زواج القاصرات مرفوض وفق المواثيق والأعراف الدولية؛ لما له من آثار سلبية على صغيرات السن من الناحية النفسية والفيزيولوجية والاجتماعية"، مبيّنةً أن مثل هذه الحالات كانت موجودة في المجتمع السوري قبل الثورة السورية، لكنها ليست بهذا الانتشار الكبير الذي أصبح ظاهرة.
وأشارت في حديثها لـ "الخليج أونلاين" إلى أن "المجتمع السوري يعي هذه الحقائق، وكان يلتزم بها بشكل كامل، لكن تغيّر الظروف الاقتصادية وتداعيات الحرب غيّرت من بعض المفاهيم المتعلّقة بوضع القاصرات، وشجّعت على بعض الانتهاكات والاختراقات بحقّهن، وهو ما تعمل على تجاوزه الآن بعض المنظمات الإنسانية والمجتمعية في عدد من المناطق السورية".
وأضافت الوكيل أن "حالات زواج القاصرات في الداخل السوري لا تُقارن بحالات زواج القاصرات في دول اللجوء، التي تبيح مثل هذا الزواج"، مؤكّدة أن "الأرقام التي تسوقها المنظمات الحقوقية والإنسانية بهذا الشأن مرعبة ومخيفة جداً".
ولفتت إلى أن "زواج القصّر من الذكور لا يرقى إلى الظاهرة في المجتمع السوري، مقارنة مع زواج القاصرات من الإناث، وهو محدود جداً، ويتم في المجتمعات ذات الصبغة الريفية"، مشيرة إلى أنه "غالباً ما يُقدم عليه عندما يكون الذكر وحيداً لوالدين مسنيين، يريدان الاطمئنان بتزويج ابنهما على استمرارية العائلة، أو لمساعدتهما في العمل المنزلي لعجزهما".
وأكدت الوكيل أن "المجتمع السوري بات أمام ظاهرة خطيرة جداً تهدد التماسك الأسري والروابط القوية التي يتميز بها عبر تاريخه الطويل، ما يتطلب البحث عن حلول عاجلة لوقف تداعيات هذه الظاهرة على المدى الطويل".