سيلا الوافي
في سوريا بات الموت أحد أشكال الحياة اليومية، ولم تُبق الحرب بأعوامها الثمانية من شيء إلا وقد أصابته بالضرر، عاصفة بالأطفال الذين فقدوا آباءهم وأمهاتهم ولم يبق من معيل لهم سوى دار رحمة (الميتم) تحتويهم وتربت على آلامهم التي فاقت أعمارهم وأثقلت كاهل أجسادهم الغضة.
مئات الأطفال ممن فقدوا آباءهم في سوريا نتيجة الصراع ورحلة التهجير المستمرة منذ سنوات، يضمهم ميتم دار رحمة في قرية الدانا، وهؤلاء بعض من أطفال سوريا الذين فقدوا والديهم، والذي يوجد فيه 208 أطفال منهم 75 طفلا بلا آباء أو أمهات، ومنهم من ما زالت أمه معه.
يقول مدير دار الأيتام ومدرسة الرحمة علي العتك إن "هؤلاء الأطفال هم ضحايا الإجرام وأعمال العنف التي تحيط بهم، سقطوا من ذاكرة العالم بعد أن تخلى العالم عن ضميره، فهؤلاء الأطفال هم قلة قليلة من آلاف الأطفال الذين تتفاقم معاناتهم يوميا دون أن يفهم أغلبهم الذنب الذي اقترفوه ليستحقوا أن يكونوا وقودا في هذه المأساة الإنسانية".


لذلك بدأنا في مدينة الدانا بتأسيس مشروع الميتم بداية العام 2013 ودخل حيز الخدمة مع بداية حلول العام 2017، وذلك من أجل رعاية الأطفال الأيتام في سوريا باعتبارهم الشريحة الأوسع التي مورس عليها الضغط في تحمل عبء فقد الأبوين، ورغم جهودنا المتواضعة فإنها تغطي جزءا من الفقدان والحرمان الذي مر به الطفل اليتيم.
ويوضح علي أن سنوات الحرب الطويلة خلفت آثارا نفسية عميقة لدى كثير من الأطفال، وزادت من أخطار الاضطرابات النفسية وانعكاساتها الفيزيولوجية على المدى الطويل، فبعض أطفال الميتم يعانون من اضطرابات نفسية ونقوم على معالجتها ضمن إمكانياتنا المتوفرة، وعلى الرغم من ذلك يبقى الطفل بحاجة لأبويه اللذين غيبهما الموت أو السجن.
أمهات وأطفال بلا معيل
شكلت الحرب في سوريا واقعا يرثى له، حيث يوجد الأطفال والنساء بمفردهم بعد فقدانهم معيلهم، والتشتت واللجوء داخل البلاد وخارجها، وصولا إلى حالة الحرمان والفقر المدقع.
تقول لمى العمر ذات الخمسة والثلاثين ربيعا وأم لأربعة أطفال، للجزيرة نت "بعد وفاة زوجي منذ ثلاث سنوات على إحدى جبهات القتال الدائرة في منطقة الراشدين بريف حلب، كنت أعمل معلمة ولكن لم أستطع الذهاب للمناطق الخاضعة لسيطرة النظام من أجل الحصول على راتبي، فلجأت للعمل في قطاف الزيتون الذي أنهك قواي وأصاب أطفالي بالمرض نتيجة التعرض الطويل لأشعة الشمس الحارقة، لكنني رغم هذا لم أفقد بصيص الأمل المنبعث من أعين أطفالي".
وتضيف العمر "بعد معرفتي بوجود دار الرحمة في مدينة الدانا في ريف إدلب، ونظام استقطابه للأطفال والأرامل كان بمثابة طوق النجاة لي ولأطفالي لانتشالنا من مصابنا بعد أن ضاقت سبل الحياة بنا".
وقالت إن "دار الرحمة لم توفر فقط العمل والمأوى لنا، بل كانت بمثابة بيت العائلة الكبير الذي يضم جميع أولاده وأحفاده في كنف رعايته مقدما لهم جميع متطلبات ومستلزمات المعيشة الكريمة، ابتداء من مرحلة التعليم والرعاية الصحية والنفسية، ومرورا بالأنشطة الترفيهية وصقل المهارات، إلى تنمية قدراتهم الذهنية والعملية التي تساهم في بناء شخصية الطفل المستقلة لتقبل حالته المعيشية رغم مشاهد الحرب والعنف التي مر بها، وانتهاء بتوفير فرص العمل لنا بكوننا مربيات ومشرفات وأمهات على جميع أطفال الدار إلى جانب أطفالنا".
كما تؤكد العمر أن "هذه الدار باتت ملاذنا الوحيد وبيتنا الدافئ الذي يشعرنا بالراحة والأمان للتغلب على صعاب الدنيا ومصابها".
من جهتها تقول ثائرة حمو المهجرة من ريف مدينة حلب وإحدى المربيات القائمات بالدار، للجزيرة نت "بعد مقتل زوجي على يد تنظيم داعش منذ خمس سنوات، وتهدم منزلي بفعل قصف طائرات النظام وانقطاع الكفالة المالية التي كنت أعيش بها مع طفلَي، لجأت إلى دار الرحمة مثل الكثيرات من النساء الموجودات في الدار من أجل تأمين الحياة الكريمة ولقمة العيش لأطفالنا بعيدا عن حياة الجهل والحاجة".
مستمرون رغم العقبات
باتت المأساة السورية عصية على الحلول، كل يوم هناك مآس جديدة، والأطفال هم الحلقة الأضعف في هذه المأساة التي لم تنته من التهام آمال وأحلام الأطفال، وفقا لما قاله علي العتك.
ويتابع علي "نظراً لاشتداد وتيرة الحرب الدائرة، وتخوّف معظم المنظمات الدولية من قصف كوادرها، أوقفت منظمة أنصار الدولية دعمها عن الدار منذ الشهر الثالث من العام الحالي، لكن غياب الدّاعم لم يضعف بعد من عزيمة أسرتنا المتكاملة، بما فيهم مدرسون ومربون ومشرفون ومسعفون، عن العمل بشكل تطوعي، ورغم تخفيضنا معظم الخدمات إلى الحد الأدنى فإن هناك احتياجات جمة تتم تغطية جزء منها عن طريق بعض المتبرعين الخاصين وتدخل بسيط من قبل منظمة مسرات من خلال دعمها بالقليل من الوقود، إلا أن هناك حاجة ماسة جدًا للكثير من الاحتياجات المادية كاللباس والقرطاسية والكتب المدرسية".
وأوضح أن استيعاب 208 أطفال بأعمارهم المتفاوتة من عمر السنتين فما فوق، إضافة لكادر متكامل لديه عائلات والتزامات أيضا، يحتاج إلى ميزانية ضخمة قادرة على سد الاحتياجات المتعددة للجميع.
وأكد أنهم يعملون جاهدين على إيجاد الحلول المناسبة بالتواصل مع بعض المنظمات سواء المحلية أو الدولية لسد هذه الفجوة أولا، ولحل مشكلة إقامة الأطفال اليافعين مع الأطفال الصغار ثانياً، ولكن إلى الآن ما من ردود إيجابية وخاصة في الظروف الراهنة.

JoomShaper