منى أبوحمور

 تودع شهيدا وتضمد جريحا وتحتضن أطفالها لتشعرهم بالأمان، ترسم أحلاما لمن حولها، لعلها تهون عليهم هول ما يرون بصبرها وقوة إيمانها، تحرم نفسها الطعام لعل تلك اللقم تشبع أبناءها، تلك هي المرأة الغزية التي تختبر في كل يوم أوجاعا جديدة تحت نيران قصف الاحتلال الصهيوني.

"لم يعد يقوى القلب على المزيد.. أهالينا شهداء وأطفالنا جياع ومن تبقى من رجالنا أسرى وجرحى ونرى قهر رجالنا بأعيننا ولا نقدر على شيء، هو الله الواحد القهار سينصفنا"، بهذه الكلمات عبرت إحدى النساء الغزيات عن حجم المعاناة والألم الذي يعشنه اليوم وقد نزحت وعائلتها للمرة الثانية بحثا عن مكان آمن بعيد عن قصف الاحتلال والغارات الفاشية.

تتعالى أصوات نساء وأمهات غزيات بعد مرور أكثر من 75 يوما على حرب الإبادة التي لم تخلف وراءها سوى الدمار، فلا مأوى ولا طعام ولا ماء، وجرحى بلا دواء وأطفال بلا حليب ووسط كل هذه المعاناة يتجبر الجيش الاسرائيلي ويقتحم المستشفيات والمدارس ويدب الرعب في قلوب النساء والأطفال.

أمام أعين النساء والأمهات والأطفال نكل جيش الاحتلال الصهيوني بالرجال والشباب وسحلهم على مرأى زوجاتهم وأمهاتهم دون أن يعلموا مكان اعتقالهم واختفائهم إن كانوا شهداء أم هم على قيد الحياة، فتصبح معاناتهن مضاعفة بين الخوف والمسؤولية.

اختصاصية علم الاجتماع والناشطة في حقوق المرأة الدكتورة فادية الإبراهيمي تلفت بدورها إلى معاناة المرأة الفلسطينية في قطاع غزة من أثر وتبعات النزاعات المسلحة من نزوح وتهجير قتل، موت وفقدان وظروف إنسانية قاسية تعانيها باستمرار.

قتل أكثر من أربع آلاف امرأة ونزوح أكثر من 800 ألف امرأة من منازلهن في القطاع، ولا يستطيع أحد ان يتخيل قسوة وألم النزوح على النساء فلا بيت ولا مأوى، مصير غير واضح، صعوبة تأمين الملجأ وتأمين المأكل والمشرب وحماية الأطفال وتأمين احتياجاتهم وتزايد المهام، بحسب الإبراهيمي.

وفي الجانب الصحي؛ فإن الدور او الوظيفة الإنجابية للمرأة من حمل وولادة وتربية الأطفال يكاد اليوم يكون مهمة صعبة جداً في قطاع غزة، فكثير من النساء الحوامل فقدن الأجنة وتعرضن للإجهاض نتيجة للحرب، والمرأة التي ما تزال تحتفظ بحملها تعاني من نقص التغذية والخوف من الولادة في ظل غياب الرعاية الصحية والظروف المناسبة للولادة من مستشفيات، وربما عدم القدرة على توفير التخدير والمسكنات.

كذلك تعاني النساء صعوبة في تأمين مستلزمات الدورة الشهرية من فوط صحية ومسكنات وما يخص النظافة الشخصية، كما أن النساء كبار السن يفتقدن لفرص توفير الرعاية الصحية وتوفير الأدوية والعلاج الخاص بهن، كذلك المعاناة من أمراض مزمنة وذوات الاحتياجات الخاصة، كذلك المصابات في الحرب واللواتي تعرضن للقصف وهدمت المنازل فوق رؤوسهن وخرجن بإصابات بالغة كالبتر لأطرافهن وبعاهات دائمة سترافقهن مدى الحياة.

أما عن الجانب النفسي فالحرب الأخيرة كانت الأعنف على النساء، حيث أُبيدت عائلات بالكامل، والفقد يُحدث صدمات نفسية يصعب تجاوزها، وضغوطات وتوتر وقلق وخوف وأرق وإحباط واكتئاب وغيرها من المشاكل النفسية التي تمر بها النساء في غزة.

الأم تفقد أطفالها تحملهم جثثا في أحضانها، قلوب الامهات محطمه في غزة ولا وجع يضاهي او يعادل أوجاعهن.

الجانب الاجتماعي للنساء في غزة والحياة اليومية الاعتيادية اختفت وانتهت، فالفتيات الصغيرات لا يذهبن للمدارس، الكتب ضاعت تحت انقاض البيوت المقصوفة، طالبات الجامعات توقفت طموحاتهن وأحلامهن، والنساء العاملات لا يذهبن لعملهن وفقدن وظائفهن وربات البيوت خسرن بيوتهن، عائلات أبيدت، ومن بقي استشهد أو أصيب أو لجأ للنزوح، والباقون يدعون بالنصر والثبات وأن تتوقف الحرب الدامية.

وفي الجانب النفسي يشير الدكتور موسى مطارنة إلى أن المرأة تنتهك كافة حقوقها الإنسانية تُقصف وتُقتل وتشرد وتتحمل مسؤولية نفسها وأسرة واجتماعية وانسانية.

ويلفت مطارنة إلى خصوصية معاناة المرأة في غزة، المسؤولية الاجتماعية والوطنية ومسؤولية الأسرة التي فقدت ولي أمرها ورجالها إما شهداء أو أسرى، ومسؤوليتها في البقاء قوية وثابتة ترفع معنويات من حولها وقد لا تجد أحد يواسيها.

وتعاني المرأة الفلسطينية في غزة بحسب مطارنة منذ زمن طويل الحصار والشح بالموارد، فكيف اليوم وهي تجد نفسها وعائلتها وأطفالها في خطر والخوف والقلق والتوتر تسيطر عليها وعندما تودع شهداء من عائلاتها وتفقد أطفالها صغارا ورضع تصبح في حالة من الصدمة النفسية والانهيار.

ويصف مطارنة المرأة في غزة بالقوية، لكن فقدان السند كالزوج والابن يضعها في معاناة مع الحياة فهي مشردة من بيتها وأمامها مستقبل مجهول وبيئة غير آمنة فلا طعام ولا ماء ولا حتى بيت بسقف يحميها وأطفالها ما يخلق لديها عدم الأمان النفسي، خصوصا عندما ترى لرجالها وأبنائها يعتقلون أمام أعينها ويسحلون ولا تستطيع أن تفعل شيئا.

ويبين مطارنة أن النساء اليوم في غزة يفتقدن السلام الاجتماعي بفعل الظروف القاهرة التي يعشنها في غزة ويعانين من رهاب الموت والفقد، فضلا عن صراع البقاء وإحساسها بالمسؤولية اتجاه أبنائها الذين وإن نجوا من قصف الاحتلال فالجوع يقتلهم ببطء.

تحمل النساء في غزة مسؤولية أبنائها في ظل الظروف الراهنة الصعبة ليس أمرا هينا وفق مطارنة، فإلى جانب تهجيرها وخسارة بيتها يمارس الاحتلال أقذر أنواع التنكيل بالرجال والشباب، لتلجأ النساء لأماكن النزوح وحدهن دون رجال ولا أبناء يجهلن مصيرهم ويخشين من المستقبل المظلم فالرضيع لا يجد حليبا والطفل يطلب كسرة خبر.

معاناة المرأة الغزية في هذه الحرب تفوق كل المرات الماضية، فهي تفقد قوتها وتتحمل ما لا طاقة لها به، والبحث مستمر عن مأوى وملجأ لها تحت القصف المستمر ورصاص الاحتلال، واصفا مطارنة ما يحدث عارا على جبين العالم واستهتار بالمواثيق الدولية والقوانين الإنسانية، ما يجعل النساء اليوم وحدهن أمام الحرب والجوع والألم وضحية عدوان همجي يدمر كل شيء.

JoomShaper