عنب بلدي – ريم حمود
وسط صرخاتها التي تحاول عبرها إثبات براءتها من تهمة وُجهت إليها بأنها “ليست عذراء” (في إشارة إلى إقامتها علاقة غير شرعية أو غير قانونية)، تزاحمت العصي فوق جسد شابة في محافظة الرقة، شمال شرقي سوريا، إذ انهال عليها رجلان بالضرب والركل والشتائم.
أحد الرجلين، يعتقد أنه الأخ الأكبر، انضم إلى “حفلة الضرب” على قارعة الطريق، بقسوة وعنف.
وجرى تداول الحادثة عبر تسجيل مصور في وسائل التواصل الاجتماعي نهاية شباط الماضي، ما أثار ردود فعل غاضبة تعارض العنف الذي يمارس ضد الفتيات، لا سيما في مرحلة الطفولة، وهو واحد من عدة أشكال ووجوه للعنف الأسري.
العنف الأسري ضد الفتيات ليس جديدًا في العائلة السورية، إذ تنتشر تسجيلات مصورة من وقت لآخر في وسائل التواصل الاجتماعي تعيد التذكير بأنه ما زال نشطًا، في ظل غياب الإحصائيات الرسمية.
تتعرض صبا (17 عامًا) المقيمة في مدينة إدلب للإهانة والضرب بشكل شبه يومي من والدها، دون أسباب واضحة، بحسب ما قالته والدتها حسناء لعنب بلدي.
أكثر ما يؤلم الأم عدم قدرتها على إنقاذ الفتاة من بين يدي والدها أو الدفاع عنها، خوفًا من تعرضها للتعنيف أيضًا، لكن بطريقة أقسى، كما حدث في مرة سابقة سردت تفاصيلها الأم، إذ حاولت تخليص ابنتها الشابة لتصبح المعنّفة الجديدة، بسبب دفاعها الممنوع بموجب تنبيهات الزوج المتكررة.
للعادات والتقاليد “الدور الأكبر”
“العنف الأسري” هو الإساءة المتعمدة بين أشخاص تربطهم علاقة عائلية كضرب الزوج لزوجته، وعنف أحد الوالدين أو كليهما تجاه الأبناء أو أحدهم، وعنف الزوجة ضد زوجها، أو بين الأشقاء، وعادة ما يكون الطرف المُعنِّف هو الأقوى، وعلى المستوى اللغوي، يعني هذا السلوك الشدة والقسوة.
والعنف هو الاستعمال المتعمد للقوة البدنية، سواء بالتهديد أو الاستعمال الفعلي لها من قبل شخص ضد آخر، أو مجموعة من الأشخاص، إذ يؤدي أي منها إلى حدوث أو احتمال حدوث إصابة أو موت أو أذى نفسي أو سوء نمو أو حرمان، بحسب تعريف منظمة الصحة العالمية (WHO).
ولا يختلف العنف ضد المرأة الذي يسبب أذى مدمرًا لحياة المرأة وأطفالها كثيرًا عن العنف الأسري، في حال كانت المرأة نفسها ضحية ويُمارس عليها أيضًا كونها مشتركة في كلا العنفين.
الاختصاصي في الإرشاد النفسي الطبيب عمر النمر، قال لعنب بلدي، إن “العنف الأسري” قد يكون جسديًا أو لفظيًا أو اقتصاديًا أو جنسيًا أو نفسيًا، وأنواع التهديد بأكملها، منها سلب الحقوق والإهمال، ويُعتبر ظاهرة عامة تعرفها كل المجتمعات بدرجات متفاوتة.
في المجتمعات العربية بشكل عام، تلعب العادات والتقاليد دورًا مهمًا لتصبح الحاكم والمقرر بزرع الأفكار بذهن الأشخاص وتغيير مسار طبيعة رؤيتهم للأحداث وتكويناتها النفسية، وتجعلهم يتصرفون بعنف على أساس يوافقها، وفق ما قالته الاختصاصية النفسية آلاء الدالي لعنب بلدي.
وأوضحت الدالي أن من الأسباب الأساسية الأخرى التي تدفع للعنف في البيئات المحافظة التي تتمسك بعاداتها وتقاليدها والموروث الثقافي، انتشار ثقافة أن الفتاة إنسان “من الدرجة الثانية”، وناقصة وتجلب “العار” إلى العائلة، بالإضافة إلى دافع الغضب الذي يسيطر على الموقف في تلك اللحظة.
ويمكننا القول، وفق الاختصاصية النفسية آلاء الدالي، إن المعنِّف هو إنسان طريقة تفكيره “غير واعية ومشوشة”، وهو عادة في حالة فوضى ومسيّر بشكل ما بالأعراف الاجتماعية بالمنطقة التي تسهم بتجرئه على ممارستها ضد أفراد أسرته.
وترى الاختصاصية النفسية أن من يستخدم العنف الأسري بأحد أساليبه، من الوارد جدًا أن يكون غير قادر على التفكير أو الإحساس “بطريقة سليمة” تجاه الشخص الذي عنّفه، إضافة إلى أن المعنِّف يفتقد في بعض الحالات للرابط العاطفي بينه وبين الطرف الذي تعرض للتعنيف، بغض النظر عن الرابط العائلي الموجود في الحقيقة، إذ تطغى عليه فكرة التحكم بمن حوله.
آثار طويلة الأمد
تعرّف الأمم المتحدة العنف الممارَس ضد المرأة بأنه “أي فعل عنيف تدفع إليه عصبية الجنس ويترتب عليه، أو يرجّح أن يترتب عليه، أذى أو معاناة للمرأة، سواء من الناحية الجسمانية أو الجنسية أو النفسية، بما في ذلك التهديد بأفعال من هذا القبيل، أو القسر أو الحرمان التعسفي من الحرية، سواء حدث ذلك في الحياة العامة أو الخاصة”.
بحسب والدة صبا، المقيمة في مدينة إدلب، باتت طفلتها في الفترة الأخيرة أكثر هدوءًا وانعزالًا، وعند محاولة الأم الترويح عنها أو الجلوس معها، تُقابلها الفتاة بتصرف غير متوقع ورغبتها بعدم قبول الحديث، هذا ما أصبح واضحًا أكثر بعد بلوغها بفترة قصيرة.
يؤدي العنف الأسري إلى آثار سلبية على الفرد والأسرة والمجتمع، سواء من الناحية النفسية أو الجسدية، وقد تستمر نتائجها لفترات طويلة، وتظهر على المديين القريب والبعيد، وفق اختصاصيين اثنين شرحا لعنب بلدي الآثار المتوقع حدوثها بعد تعرض الفتاة أو المرأة للعنف الأسري.
وترى الاختصاصية النفسية آلاء الدالي، أن العنف المطبّق على الفتيات والنساء يترك آثارًا على المدى البعيد سواء بعمقه داخلها أو ببعده الزمني، خاصة إن كان مرافقًا لهن في حياتهن اليومية وما زال مستمرًا، إذ يتيح للآثار أن تكون أكثر شدة.
أما بالنسبة إلى حجم الأثر الذي يتركه بشخصية المعنَّفة فهو يزداد، وبقاؤها في البيئة نفسها يعتبر “كارثة” قد لا تصلح نتائجها، وفق وصف الاختصاصية النفسية، ويضاعف من إحساسها بالذنب والنقص والإهانة، وعدم القدرة على مواجهة المجتمع، وصعوبة التعامل مع زوج أو أطفال عاطفيًا.
بينما يرى الاختصاصي النفسي الدكتور عمر النمر، أن من الآثار النفسية التي تصيب الفتاة المعنَّفة، اضطرابات في النوم وحالة من القلق المستمر، وضعف تقدير الذات والثقة بالنفس، وضعف القدرات العقلية وضعف التركيز وتشتت الذهن، وعدم القدرة على اتخاذ القرار والتصرف بشكل مستقل وصحيح بالمجتمع، إضافة إلى وصول المعنَّف إلى الانتحار في بعض الأحيان.
بحسب الدكتور النمر، تلعب الآثار النفسية على الفتاة المعنَّفة دورًا أساسيًا بحياتها المستقبلية، ما يجعل قدرتها على اختيار الشريك المناسب غائبة، إذ يوجد احتمال قبولها بشخص لا ترغب الارتباط به، لكنه سيكون منقذًا بالنسبة إليها من أجواء العنف الأسري المحيط بها، مشيرًا إلى أن توتر العلاقة والخوف سيرافقانها بسبب مواقف سابقة واجهتها في علاقتها الأسرية.
اتفق الاختصاصيون النفسيون الذين تحدثت إليهم عنب بلدي على ضرورة خضوع المعنَّفات للعلاج النفسي، لمواجهة الآثار التي يخلفها العنف قبل تفاقم المشكلات النفسية وتطورها.
“العلاج النفسي للفتاة في حالات العنف الأسري أو العنف ضد المرأة ضروري جدًا، لإعادة تكوين مفاهيم صحيحة حول علاقتها مع نفسها أولًا ثم مع الرجل والعائلة والأطفال، وبناء الأسرة السليمة”.
العنف يشوه العلاقة الأسرية
مثل حالة الشابة صبا، تتعرض راما المتزوجة منذ عشرة أعوام للضرب بقسوة لكن من زوجها، وازداد الأمر في السنوات الأخيرة، مشيرة إلى أن غياب أفراد أسرتها الذين قتلوا بقصف من طيران النظام السوري استهدف مدينة البوكمال عام 2014 تسبب بمعاملة زوجها القاسية.
وذكرت راما (33 عامًا)، أنها فقدت جنينها العام الماضي إثر شدة الضرب والركل على مناطق متفرقة من جسدها، لكن لا حل أمامها إلا الصبر وتحمل زوجها الذي أنجبت منه أربعة أطفال أكبرهم يبلغ من العمر ثمانية أعوام.
غياب الملجأ بالدرجة الأولى يُعد أحد الأسباب لعدم تفكير راما (التي تحفظت على ذكر اسمها الكامل لأسباب شخصية) بالطلاق، رغم كل ما تعانيه من معاملة زوجها معها ومع الأطفال، وتصف تلك المعاملة بأنها “غير طبيعية” كباقي العائلات، إذ يخاف الأطفال إصدار الأصوات منذ دخول أبيهم إلى المنزل لكيلا يتعرضوا للضرب.
تؤدي أجواء العنف في الأسرة إلى تدميرها وتمهيد الطريق أمام التفكك الأسري، بالإضافة إلى تدني إنتاجية وكفاءة أفرادها بكل النواحي، فالفرد الذي يتعرض للعنف لا يمكن أن يكون بكفاءة الشخص السليم الواثق من نفسه، وهذا ما أكده الدكتور عمر النمر.
ومن أخطر نتائج العنف الأسري على العائلة، ضعف الأسرة، وفقدان الأمان لدى الأفراد، وكسر شخصيات المعنَّفات، ما ينتج عنه فتاة غير قادرة على الانخراط بالمجتمع وتكوين أسرة طبيعية، إذ إن الشخص المعنَّف من عائلته سينقل هذا السلوك إلى أبنائه لا شعوريًا، وفق عمر النمر.
الاختصاصي النفسي الدكتور عمر النمر، يرى أن عودة العلاقة الأسرية بين الفتاة والفرد الذي عنفها من أسرتها إلى الحالة الطبيعية أو شبه الطبيعية قد تستغرق وقتًا طويلًا، مع ارتباطها بعدة عوامل، منها حجم العنف الذي تعرضت له، وشخصية الفتاة وطبيعة الاعتذار المقدّم في حال وجد، مع التأكيد على اختلاف القدرة على المسامحة والتخطي من شخص لآخر.
غياب الشفافية
يغيب الرقم الإحصائي الدقيق في سوريا، بمختلف القطاعات، ولا أرقام دورية تتابَع لأسباب أبرزها غياب الشفافية، إذ تصنّف منظمة الشفافية الدولية سوريا في المرتبة 177من أصل 180 دولة، ضمن مؤشر مدركات الفساد لعام 2023.
وفي أحدث إحصائية صادرة عن رئيس الهيئة العامة للطب الشرعي في سوريا، زاهر حجو، في آب 2022، سجلت 872 حالة عنف ضد المرأة السورية خلال النصف الأول من 2022.
وفي تشرين الأول 2021، احتلت سوريا المركز الثاني في ذيل “مؤشر السلام والأمن للمرأة” (WPS) الصادر عن معهد “جورج تاون للمرأة والسلام والأمن”، ومركز “بريو للجندر والسلام والأمن”، في الأمم المتحدة، وبحسب المؤشر، فإن سوريا هي الأسوأ عالميًا فيما يتعلق بالعنف المنظم، والأسوأ إقليميًا فيما يتعلق بسلامة المجتمع.
وبحسب مؤشر “المرأة العالمي للسلام والأمن”، جاءت سوريا في المرتبة 171 من أصل 177، مستندة إلى وضع الحماية والعدل والضمان الذي تتمتع به المرأة في سوريا.