هيفاء بيطار
أصبحت ظاهرة هجرة النساء السوريات إلى دول الخليج كبيرة وخطيرة، فعدد كبير من الأمهات في سوريا تركن أولادهن وأزواجهن وسافرن إلى دول الخليج خاصة (وغيرها من الدول). في اللاذقية وحدها عشرات الأمهات السوريات اضطررن بسبب ظروف لا تُحتمل من ذل العيش، أن يتركن أولادهن ويؤمنّ عقد عمل في دول الخليج.. هذه الظاهرة خطيرة ومُبطنة بالكثير من الذل والقهر لأسباب عديدة :
– الأم هي أساس الأسرة هي من تعتني بأطفالها من الناحية الصحية والأخلاقية، وهي تشرف على دراستهم وتصرفاتهم، وهي نبع الحنان والمحبة الذي يجعل الأولاد يشعرون بالأمان والاستقرار، خاصة في السنوات الأخيرة في سوريا (منذ 14 عاماً) حيث كان معظم الآباء غائبين عن البيت، إما متطوعين في الجيش السوري، وقسم كبير منهم استشهد، أو صار يُعاني من عاهة تمنعه من العمل، ما زاد أعباء المرأة في تأمين عيش كريم لأولادها، لكن بلغ بؤس العيش في سوريا حداً كبيراً لأن 90 في المئة من الشعب السوري يعيش تحت خط الفقر ويستحيل تأمين طعام صحي للأولاد، ويستحيل تأمين مصروف المدرسة أو الجامعة أو الدروس الخصوصية التي أصبحت بدورها ظاهرة تهدد دور المدرسة، ووزارتي التربية والتعليم، فالعديد من الأسر اضطرت إلى أخذ قروض من البنوك لتأمين أجرة الدروس الخصوصية لأولادها، أو اضطر الكثير من الأسر إلى بيع أثاث منازلهم لتأمين الدروس الخصوصية.
المؤلم أن الوضع المعيشي في سوريا يزداد قهراً بعد انهيار الليرة السورية، إذ أصبح أعلى راتب لموظف في الدولة السورية بين 10 ـ 14 دولارا. طال الغلاء حتى أسواق الملابس المُستعملة، حيث ثمن جاكيت مثلاً، يفوق مئة ألف ليرة سورية، وأحياناً أكثر بكثير، وظروف العيش في وفرة العتمة، فالكهرباء تنقطع لساعات طويلة والمياه كذلك والجوع يطال الجميع، والصمت الأليم على تلك المعاناة وتردي الوضع المعيشي طوال سنوات، جعل معظم السوريين يشعرون بأن الوضع المزري أبدي فلا ضوء في نهاية النفق، وبالتأكيد أثرت الحرب في فلسطين ولبنان على معيشة السوريين، إذ أصبح أي تذمر أو شكوى من المواطن تُقابل بجواب وحيد وأبدي من الحكومة السورية: نحن في حالة حرب، وشهدت مدن سورية كثيرة قصفاً إسرائيلياً دمر بيوتاً في دمشق واللاذقية وغيرهما .
المثل الذي يقول: ما الذي أجبرك على المُر، والجواب ما هو أكثر مرارة منه .هذا المثل ينطبق تماماً على وضع الكثير من الأسر السورية، إذ لم يعد باستطاعة الأهل التفرج على أطفالهم الجياع المقهورين، والكثير منهم تركوا المدرسة (بعلم الأهل وتشجيعهم) للعمل، وتزايدت أعداد الأطفال السوريين المتسولين، أو الذين يعملون في أعمال خطيرة عند نجار أو محطات بنزين أو في مطاعم. حين تضطر الأم أن تترك أطفالها وتسافر بعد أن تؤمن عقد عمل لتوفر لهم الحد الأدنى من العيش الكريم (طعام صحي، مصروف المدرسة، تأمين بطارية لتنير على الأقل غرفة في البيت)، فالأم وصلت مرحلة لا تُحتمل من القهر لدرجة يتغلب القهر على أقوى شعور وهو محبة الأم لأولادها وحمايتهم وغمرهم بالحب والحنان.
ومن المهم إعطاء بعض الأمثلة، إحدى الأمهات وهي حاصلة على شهادة من المعهد الطبي ولديها طفلان (6 سنوات 13 سنة) وزوجها لا تعرف عنه شيئاً منذ سبع سنوات،
تركت طفليها عند جدتهم التي تعاني من أمراض الشيخوخة وسافرت إلى دولة خليجية لتعمل طباخة لدى أسرة عربية ثرية (هكذا كان الاتفاق كما ذكرت) لكنها فوجئت أن تلك الأسرة تطلب منها إضافة إلى الطبخ أن تقوم بتنظيف المنزل والعناية بالأطفال، وخصصوا لها غرفة بائسة في المنزل، حين حاولت أن تعترض وتقول، لم يكن الاتفاق بيننا سوى أن أطبخ، كان رد الأسرة: إذن عودي إلى وطنك. فأذعنت لأنها تريد تأمين عيش كريم لأولادها في سوريا، بالتأكيد كانت قلقة على طفليها، لأن مخاطر كثيرة يُمكن أن يتعرضا لها، أن تترك ابنة مراهقة ( 13 سنة) مع جدة عجوز فأي مخاطر يُمكن أن تتعرض لها هذه المراهقة، فالجدة لا يُمكن أن تحمي الطفلين من أخطار مُخيفة، خاصة أن نسبة الإجرام ترتفع وسفاح القربى (أو غير القربى) منتشر بكثرة، لكن مجتمعاتنا العربية مثل النعامة تدفن تلك الجرائم في الصمت، بل تُصبح المراهقة التي تعرضت للاغتصاب منبوذة ولا أحد يرغب في الزواج منها (أي أنها تُصبح منبوذة ومدانة). ابنها ذو السنوات الست، الذي كان ينام في حضن أمه أصابته حالة نفسية، إذ أصبح يقضي معظم يومه في النوم، حتى في المدرسة كان ينام في الصف، هي حالة نفسية من الهروب من الواقع من الذعر والألم من غياب الأم، رغم أن أمه كانت ترسل المال ليأكل أولادها طعاماً صحياً وتؤمن مصروفهم في الدراسة، لكن الصدمة التي زلزلت روح الطفل لم تتمكن الهدايا وتحسين المعيشة من معالجتها. عشرات الحالات أو ربما مئات الحالات تشبه، أو تُطابق إلى حد كبير، حالة تلك الأم وأسرتها .
ثمة شابات أيضاً (معظمهن جامعيات أو حاصلات على شهادة من معهد طبي أو تجاري) بقين لسنوات طويلة عاطلات عن العمل، وثمة قانون جائر في حق المرأة في سوريا وهو: حين تُعلن الدولة عن مسابقات لقبول مُعلمين، ويتقدم مئات من خريجي الجامعات إلى تلك المسابقات (رغم أن الراتب في حال القبول لا يتجاوز عشرة دولارات) فإن لجنة المسابقة تختار الشاب الجامعي، رغم أن شابات تفوقن عليه في فحص المُسابقة لنيل الوظيفة، تعليل اللجنة أن الشاب (الرجل) مسؤول عن إعالة الأسرة! يا سلام على إعالة أسرة بعشرة دولارات، أي ظلم وتنمر على الشابة الجامعية التي تخرج من المسابقة التي تفوقت فيها على زملائها الذكور مدمرة الروح والأحلام. إحدى الشابات الحاصلات على درجة جيد جداً في الفيزياء، لم توفق بوظيفة كانت بالكاد تؤمن لقمة عيشها بإعطاء دروس خصوصية لطلاب في المرحلة الابتدائية، لأنها غير معروفة كالأساتذة المشهورين الذين جمعوا ثروات بالملايين من الدروس الخصوصية، تلك الشابة وكثيرات مثلها، دفعهن القهر واليأس إلى تأمين عقد عمل في دول الخليج، لكن عقد العمل كان تدريس صفوف المرحلة الابتدائية كل المواد أي الفيزياء والرياضيات والعلوم (أعفوها من تدريس اللغة الأجنبية) لكنها فوجئت أن مُدرسة الرياضة في المدرسة حصلت على إجازة أمومة فطلبوا من الشابة أن تقوم بمهمة حصص الرياضة البدنية للأطفال (وهي حصص مرهقة للغاية) وحاولت أن تعترض وأنها تكاد تنهار من التعب لكن كان الرد من إدارة المدرسة: كل ما نطلبه منك يجب أن تُلبيه وإلا عودي إلى وطنك، اضطرت أن تتحمل وأصبحت تتناول دواء مضاداً للاكتئاب من أجل أن تؤمن مصروف الجامعة لأخيها وتتظاهر حين تتصل بأسرتها أنها سعيدة .
من الصعب جداً أن نتكلم عن حالات مشابهة لهجرة أمهات تاركات أطفالهن في فم الغول والابتعاد عنهم لأشهر وسنوات، من أجل تأمين لقمة عيش كريم أو شعاع ضوء في فرط العتمة، أيضاً لشابات جامعيات يتم التحكم بهن واستغلالهن في فرض واجبات مُرهقة، لا ينص عليها العقد وتُجبر الشابات الجامعيات على القبول وعلى تحمل الاستغلال لأن أحبة يموتون من الجوع والقهر في سوريا .
ظاهرة خطيرة في ترك الأمهات لأطفالهن عند الأقارب، إذ يختل التوازن النفسي للأطفال بغياب حجر أساس الأسرة (الأم) أيضا ظاهرة خطيرة هجرة شابات سوريات جامعيات بقين لسنوات في سوريا عاطلات عن العمل يشعرن بالظلم والإهانة مع كل مسابقة لاختيار مُدرس،
إحدى الجامعيات السوريات فضلت أن تعمل في ملهى ليلي تُغني الأغاني الهابطة ليرقص الجمهور، ومن يدري هذا العمل في ملهى ليلي إلى أين يقود!!
ما يؤلم أن الإعلام السوري لا يتحدث إطلاقاً عن تلك الظاهرة الخطيرة (هجرة الأمهات والشابات السوريات). لأنه مشغول فقط بموضوع الحرب والصمود والتصدي، أما 90 في المئة من الشعب السوري الذي يعيش تحت خط الفقر فهو على شفير الهاوية، ومن عجائب الدنيا صموده في وجه ذل العيش الذي لا يُحتمل.
٭ كاتبة سورية