ابتسام تريسي
الجزيرة مباشر
واحدة من أبشع الجرائم ضدّ الإنسانية ما تزال تداعياتها مستمرة لغاية اللحظة، اختفاء أكثر من أربعة آلاف طفل وطفلة من سجون المجرم الهارب خلال سنوات الثورة، مرتكبو هذه الجريمة رؤساء فروع أمن، ووزيرتين سابقتين من عهد النظام، ومنظمات تَدَّعي أنّها إنسانية، وتشير الاتّهامات الأولية أنّ كلّ ذلك كان يتمُّ برعاية سيدة الجحيم أسماء الأسد.
ليس ذلك اللقب عبثا، فقد ظهر للعلن تورط أسماء الأسد في جرائم ضدّ الإنسانية ثبت أنّها قامت بها من موقع نفوذها في الدولة، ومن دون ارتباط بالسيادة الرئاسية.
أشهر قضايا المعتقلات
بدأت الحكاية إثر اعتقال الطبيبة رانيا العباسي وزوجها مع أطفالهما الستة (أكبرهم في الرابعة عشرة من عمره وأصغرهم ابن سنتين فقط) وذلك سنة 2013، غُيّبت رانيا وأطفالها، ومساعدتها، وزوجها في المعتقل، ولم يسمع عنهم شيئا على الرغم من مطالبة الكثير من المنظمات الإنسانية بالإفراج عن الدكتورة، ومعرفة مصيرها.
وبعد سقوط النظام بدأت الحقائق تتكشف، والوثائق تظهر عن هذا التعاون السلس بين فروع الأمن والوزيرتين وتلك المنظمات اللاإنسانية، كان الدور الهام في كشف هذه الحقائق لشقيق الطبيبة حسان العباسي الذي أوقف حياته للبحث عن أولاد شقيقته، بين دور الأيتام (مثل مجمع لحن الحياة، جمعية المبرة، دار الرحمة للأيتام، وقرى الأطفال sos) ووقوعه بين براثن المحتالين الذين يزرعون الآمال الكاذبة للحصول على مبالغ مالية ضخمة، وعندما ناشد الحكومة من خلال صفحته الشخصية على الفيس بوك التقطت الناشطة والناجية من الاعتقال السياسي سوسن تللو العباسي القضية، وبدأت رحلة بحث قادتها لمغامرات لم تخلُ من الخطورة مع بعض الأشخاص الذين مدوا يد المساعدة.
وبمنهجية سياسية أمنية سلسة يُنقل الطفل، أو الطفلة من المعتقل بأمر من أحد فروع الأمن، وتوقيع من وزيرة الشؤون الاجتماعية إلى أحد دور الرعاية المتخصصة -المفترض أنها لحماية الأطفال- بأسماء جديدة، وتغيير الأسماء في السجلات الرسمية، منهم من يبقى في دار الرعاية، ومنهم من يُنقل لبيوت خاصة، حياتهم في كلا الحالين أشبه بحياة معتقل من حيث المعاملة. يبقى الأطفال فترة من الزمن، ثمّ يتمُّ تسفير بعضهم إلى إيران، أو روسيا بحجة لم الشمل، ومن ينتقل منهم إلى البيوت غالبا يُستغل بطريقة لا إنسانية، ومن يحاول الهرب قد يموت تحت التعذيب.
عندما تعاظمت الشكوك لدى الناشطة سوسن تللو لجأت إلى وزيرة الشؤون الاجتماعية السيدة هند قبوات لتضعها في صورة الأمر وتناشدها لاتخاذ اللازم، ورغم إلقاء القبض على الوزيرتين السابقتين وإحالتهما إلى التحقيق، بانتظار النتائج إلا أن الأمر قد لا ينتهي إلى المأمول منه؛ فالقضية تحتاج إلى تحقيقات دولية أيضًا، فنحن لا نتحدّث عن ستة أطفال فقط، وإنّما عن أكثر من أربعة آلاف طفل من ذوي المعتقلين لا أحد يعرف عنهم شيئا في زمن باتت الأخلاق فيه سلعة يُستهزأُ بها.
للقضية بقية صادمة
هل يحتاج الأمر إلى آليات بحث شاملة تُشارك فيه منظمات دولية؟ هل يمكننا البحث عن بقية الأطفال في الشوارع؟ بكل تأكيد من عاش سنوات باسم جديد سينسى اسمه الأصلي، أمّا ابن السنتين الذي أصبح الآن بعمر الخامسة عشرة فما الذي يمكن أن يذكره؟ بكلّ تأكيد لو التقى بأمه -إن كانت ما تزال حية- فلن يعرفها
ربما إن كان قد نجا منهم أحد ما فبكلّ تأكيد هو من أطفال الشوارع اليوم، فالعائلة التي كانت تستغله قبل سقوط النظام لن تبقي عليه بعد السقوط، ولأطفال الشوارع حكاية أخرى.
أطفال الشوارع
في عدة فيديوهات صادمة صوّرها هواة، ونشروها على مواقع التواصل، يظهر بعض الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين الثامنة والثانية عشرة وهم يتعاطون نوعا من المخدرات، يسأل المصور أحدهم ماذا تفعلون بهذا؟ يقول “نشم، كلياتنا نشم”. تقترب البنت وتخاطب المصور بفظاظة، وتهدده بكسر الكاميرا إن لم يغلقها. فتاة في الثانية عشرة بيتها الشارع تتعاطى علنًا، وتهدد بألفاظ نابية الشخص الذي يصورها.
فيديو آخر لطفلة أخرى في حديقة تدخّن “الشيشة”. أيضا ترد بألفاظ نابية على الشابة التي تحاول تصويرها، أحد الأطفال معها أجاب بالنيابة عنها إن والدها في السجن، ولا تعرف أمّها، وهنا بيتها.
الملاحظ أنّ هذه الظاهرة التي أفرزها العنف الدائر في البلاد منذ بداية الثورة، خلقت عصابات تقوم باستغلال هؤلاء الأطفال، والاتجار بهم جنسيّا، وأيضا توسعت شبكات الاتجار بالأعضاء. ففي ظلّ غياب الأهل، وانعدام الرعاية، وانتشار السلاح الذي لم يضبط بعد، والمشاكل التي تتعرض لها الإدارة الجديدة في سوريا، والتحديات الخارجية والداخلية، سيضيع جيل كامل من الأطفال لن يجد من يأخذ بيده إن لم تتحرك الدولة بقوة لمكافحة هذه الظاهرة.
يرتبط هذا الملف ارتباطا قويا بظاهرة انتشرت في السنوات الأخيرة، وهي ظاهرة اللقطاء. لم تصدر إحصائية دقيقة بعد عن عدد الأطفال الذين لا تتجاوز أعمارهم الأيام، أو الأشهر وقد رمتهم أمهاتهم -في الغالب- قرب المساجد، أو المجمعات التجارية، أو حتى في البرية. البعض منهم أولاد الحاجة والفقر.
مقترحات للسيدة وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل.
ولأنّ القادم سيكون كارثيا على أطفال سوريا، يجب على الحكومة ووزارة الشؤون الاجتماعية تحديدا أن تقوم بإنشاء آليات بحث وتوثيق شاملة لتحديد الأطفال المفقودين، وربطهم بعائلاتهم.
تقديم الدعم النفسي والاجتماعي للأطفال الناجين من هذه الجرائم وعائلاتهم. ووضع قوانين وتشريعات صارمة لمكافحة الاتجار بالبشر، وضمان عدم تكرار مثل هذه الجرائم.
محاسبة جميع المتورطين في هذه الشبكات الإجرامية، بغض النظر عن مناصبهم السابقة.
تبدو التحديات كبيرة، ولكنّها الخطوة الحاسمة في بناء سوريا الجديدة. التي تبدأ من بناء الإنسان.
المصدر: الجزيرة مباشر