د. عبد الكريم بكار
كلّ يوم يمرّ يؤكّد على أنّ الثّورة السّوريّة لم تقم من أجل تغيير نظام سياسيّ أو طبقة حاكمة، وإنّما قامت لأنّ للبلد هويّة وقيمًا عميقة مناقضة للقيم التي حكم على أساسها النّظام قرابة نصف قرن من الزّمان، وقد ظهر ذلك من الخطوات الأولى للثّورة حين قام بعض أطفال (درعا) بكتابة بعض العبارات التي تطالب النّظام بالرّحيل.
إنّه عمل احتجاجيّ غير عنيف من أطفال لم يدخلوا بعدُ تحت طائلة المسؤوليّة القانونيّة، وعبَّرالنّظام في ردّ فعله عن القيم التي يستمر في الحكم على أساسها، حين قام رجال مخابراته بتعذيب أولئك الأطفال وقلْع أظافرهم، وحين جاء أهلوهم للمطالبة بإخراجهم ردّ عليهم مدير مخابرات حوران (ابن خالة بشار) بكلام يمسّ الكرامة والشّرف والعرض..
إنّ من الواضح جدًّا أنّ الذي دفع النّاس إلى الثّورة وتحمّل أعبائها الكارثيّة على مدار ثمانية عشر شهرًا لم يكن التّقليد لثورات الرّبيع العربيّ أو من أجل الرّفاهيّة وتحسين الأوضاع. إنّ الدّافع الأساسيّ هو دافع يتّصل بالعمق النفسيّ والفكريّ للنّاس، وأستطيع أن أقول وأنا مطمئن: إنّ الثّورة  قامت؛ لأنّ هناك نظامًا لا يعترف بأنّ في البلد شعبًا، له حقوقه وكرامته ورأيه ورؤيته، وقامت أيضًا؛ لأنّ هناك شعبًا لا يثق بالنّظام الذي يحكمه، وفقْدُ الثقة بالنّظام لم يأتِ من فراغ، وإنّما من الكذب الوقح والسّافر الذي يمارسه إعلام النّظام وقادته عبر تلك السّنين الطّويلة.

الثّورة السّوريّة تخوض معركة ثقافيّة، ليس القتال واستخدام السّلاح سوى أدوات يستخدمها النّاس في استرجاع القيم والمبادئ التي انتهكها النّظام.

نحن نعرف أنّ الثّورة ظلّت سلميّة تنادي بالوحدة الوطنيّة نحوًا من ستّة أشهر، ولم يكن حمل السّلاح في البداية إلاّ من أجل حماية المتظاهرين من القتل وحماية الحرائر من الاغتصاب، ولكن بما أنّ الفاصل بين الدّفاع والهجوم هو فاصل وهميّ، فقد صارت الأمور إلى ما صارت إليه.

الثورة السّوريّة قامت من أجل الخلاص من الاستبداد والفساد والرّشوة والتّسلط واحتقارالنّاس من قِبَل طبقة سياسيّة جاهلة ومنحطّة، ومن أجل ترسيخ قيم العدل والحريّة والشّورى والسّلام الاجتماعيّ، ومن أجل إحلال سوريا في المنزلة الحضاريّة التي تليق بها، وهذه القيم جملة وتفصيلاً هي قيم إسلاميّة عالميّة. إنّها تتّصل بعقيدة الأمّة، وتتّصل بروح العصر، وقد كان الثّوّار يدركون منذ البداية أنّ تكاليف عسكرة الثّورة باهظة، وأنّ الاحتجاج السّلميّ هو الطّريق الأسلم والأقصر إلى بلوغ  غاياتها، وهذه الرّؤية إسلاميّة بامتياز، فقد تمكّن رسول الله  ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من تحرير جزيرة العرب من الشّرك وعبادة الأصنام من خلال القليل جدًا من المعارك والخسائر؛ فبعض الدّراسات يفيد أنّ عدد القتلى من الصّحابة -رضوان الله عليهم- لم يتجاوز ثلاثمائة شخص، وأنّ قتلى الطّرف الآخر لم يصلوا إلى ألف وثلاثمائة!

النّظام المجرم يقتل اليوم هذا العدد في خمسة أيّام، ويدّعي أنّه يحمي المواطنين من العصابات المسلّحة!!

استمرار المعركة:

حين يطول أمد محنة أو معركة، فإنّ نسيان البواعث والأهداف الأولى يظلّ واردًا؛ إذ إنّ الامتداد يقتل الاتّجاه كما يقتل المكانُ الزمانَ، ومن هنا فإنّ على الثّوار عامّة والجيش الحرّ الأبيّ والشّجاع المحافظة على ثوابت الثّورة، والسّماح لأخلاقيات الثّوار بأن تتجسّد على الأرض، حتى يلمسها النّاس ـ كلّ النّاس ـ بصورة واضحة، ولعلّ من أهم ذلك:

1- المناداة بالحريّة والعدالة والحفاظ على حقوق المواطنين وممتلكاتهم.

2- نبذ العنصريّة والطّائفيّة والجهويّة بكلّ أشكالها ومظاهرها؛ فالثّورة تنجح من خلال دعم المواطنين لها بعد معونة الله ـ تعالى ـ  بسبب شعورهم بأنّها لهم جميعًا.

3- نحن نريد إسقاط النظام، وليس إسقاط الدّولة، ولهذا فإنّ من واجبنا المحافظة على المؤسّسات الحكوميّة، وعلى وثائقها وأثاثها، وإيذاؤها يشبه العمل الجراحيّ، فكلّما كانت حركة المشرط أصغر كان أفضل.

4- إسقاط النّظام المجرم في سورية ليس سوى وسيلة، والغاية هي إقامة نظام حكم يرعى القيم الجوهريّة التي يؤمن بها النّاس، كما يرعى كراماتهم وحقوقهم، بالإضافة إلى نشر العدالة والنّهوض بالبلد، وهذا لن يتحقّق إلاّ من خلال إقامة نظام حكم دستوريّ شوريّ، يختار فيه النّاس من يحكمهم، ويخضع فيه الجميع لسلطة القانون، ويجب أن نتمسّك بهذا المبدأ؛ لأنّ البديل هو الاقتتال الداخليّ لسنوات طويلة.

5- هناك أعداد كبيرة من الجيش الحرّ لا تملك السّلاح، وليس لها عمل محدّد، وهذه فرصة كبيرة أمامهم لتشكيل فرق تطوعيّة تقوم بأعمال النّظافة وإيصال الخدمات للنّاس في المناطق المحرّرة على نحو خاصّ. إنّ النّاس هم الحاضنة الحصينة للجيش الحرّ وللثّورة، وقد تحمّلوا من الضّرر والأذى الشّيء الكثير، ولهذا فإنّ خدمتهم ومساعدتهم من واجبات الثّوار في هذه المرحلة الصّعبة.

الثّورة السّورية قدّمت للشّعب الكثير، وأخذت منه الكثير، والأمور بنهاياتها، والنّهاية عظيمة ومبشّرة بإذن الله تعالى.

JoomShaper