بقلم: أكرم البني
يقف المرء حائرا ومندهشا وهو يرى صور الاحتجاجات العنيفة التي طوقت السفارات الغربية في ليبيا ومصر وتونس واليمن ضد «فيلم» مغرض ومشين، وقد طغت على مشاهد العنف والتدمير المروعة التي استباحت أرواح السوريين وممتلكاتهم.
وإذا نحينا جانبا فكرة المؤامرة، دون أن نبخسها حقها، وتجاوزنا الأسئلة المشككة عن توقيت إنتاج الفيلم وسرعة تعميمه ومن المستفيد من إثارة الغرائز وتشجيع هذا النوع من الغضب الشعبي وردود الأفعال الحادة ضد الغرب التي وصلت إلى أوجها في بنغازي بحرق القنصلية الأميركية وقتل السفير وبعض مساعديه، فإن ما شهدناه يعتبر عمليا أشبه بمؤامرة لتشويه سمعة الثورات العربية عموما، إذ شهدت مدنها أوسع الاحتجاجات وأكثرها عنفا، ولإيقاع أشد الأضرار بالثورة السورية على وجه الخصوص ومن زاويا متعددة.
أولا: إن تأجيج المشاعر والغرائز ضد فيلم قصير جدا تم تصويره على عجل يتوهم الإساءة للرسول، لأن لا أحد يستطيع الإساءة والتطاول على هذا المقام الكريم، كان غرضه إيقاع الشعوب العربية والإسلامية ضحية خداع من يضمر لهم شرا، وشحن انفعالات بعض المتزمتين ليعيثوا فسادا في الأرض، وما ترتب على ذلك من تحويل الانتباه عما يجري في سوريا من قمع وتنكيل مروعين لم يشهد القرن الحادي والعشرين لهما مثيلا، وزادت الأمر تعقيدا عبارة «إلا رسول الله»، التي تشي بإمكانية التغاضي عن غير ذلك من الموبقات والتجاوزات، واستسهال فظائع وأهوال يندى لها جبين الإنسانية!
ثانيا: تعزيز مخاوف الأقليات الدينية من التغيير والثورة، وهو الوتر الذي طالما عزف عليه النظام السوري، بأنه حامي الأقليات والتعددية في مواجهة طوفان إسلامي أكثري سوف يأكل الأخضر واليابس ويفرض مظاهر التضييق والتنميط على أسلوب حياة الناس وطرائق عيشها، والأهم أن العمل على إزالة هذه المخاوف يحظى بأهمية راهنة، جراء صعوبة تحقيق انتصار حاسم للثورة في مجتمع تعددي كسوريا، إذا لم تنجح في كسب الأقليات الدينية والعرقية وفك ارتباطها بالنظام وفضح ادعاءاته بأنه الضامن لحقوق هذه الأقليات وأن ما يواجهه هو عصابات سلفية وإرهابية تريد إعادة البلاد عشرات السنين إلى الوراء.
صحيح أن مطلب الدولة المدنية التعددية والديمقراطية هو مطلب مشترك لكل الشعوب الثائرة، وأن الجماعات الإسلامية التي نصبت من نفسها وكيلا عن شؤون الأكثرية لا تمل من تقديم الوعود والضمانات للأقليات وطمأنتها على حقوقها واحترام خصوصياتها، لكن الصحيح أيضا أن ثمة شكوكا بصدقية هذه الجماعات وارتيابا بأنها تضمر غير ما تظهر ولن تفي بما تعد به، خاصة أنها ليست قليلة التجارب التي يمكن أن يستند إليها للطعن بوفائها، ويزيد الطين بلة مظاهر استشراء العنف والثأر والتعصب لدى بعض أطرافها فيما تعتبره دفاعا عن دينها ومقدساتها.
ثالثا: إحياء مخاوف الدول الغربية من الإسلاميين وإثارة مزيد من شكوكهم بالثورات العربية وقدرتها على إنتاج الأفضل، الأمر الذي سينعكس في الحالة السورية بإطالة مخاض الثورة وآلامها، حين تترك وحيدة في مواجهة تحالف حربي، دولي وإقليمي، لا هدف له سوى محاصرتها وسحقها، في حال استندت بعض الدوائر الغربية إلى ما جرى لتمكين موقفها وتبرير تلكئها في دعم الحراك الشعبي والتدخل الحاسم لوقف العنف السلطوي، الأمر الذي ظهرت بوادره في تعليق الوزيرة هيلاري كلينتون على أحداث بنغازي، بتساؤلها عن دوافع وجدوى ما حصل «في بلد ساعدناه على التحرر، وفي مدينة ساعدنا على إنقاذها من الدمار».
«غضبكم كاذب» و«كرامة النبي في اتباع أخلاقه» هما عبارتان في لافتات رفعها السوريون إلى جانب تسمية يوم الجمعة المنصرم بجمعة «أحباب رسول الله في سوريا يذبحون». ربما كإشارة إلى نبذ صور العنف والثأر الجاهليين وإلى سلوك الرسول المترفع تجاه إساءات تعرض لها في حياته، وهو القائل «رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر». وربما كإدانة لصمت استمر عاما ونصف العام ولا يزال، تعرض خلاله الشعب السوري المؤمن والثائر، بأديانه ومذاهبه المختلفة، إلى شتى صنوف القهر والتعذيب دون أن تتحرك الشعوب العربية لنصرته أو تتظاهر وتطالب بوقف هذا العنف الأعمى، وتاليا كاستغراب وعتب على من غض الطرف عن إساءات واضحة طالت الله والأنبياء، وتكررت في سياق قمع المتظاهرين والمحتجين السوريين، فأهينت الأديان ودنست المقدسات بطرق أكثر استفزازا من صور الفيلم المفبركة، وربما ردا على من رفع صوته عاليا، وشجع العنف، وبدأ بالمزايدة في نصرة الأديان والأنبياء لكسب عواطف المسلمين، وربما دحضا لمحاولات توظيف هذه الإساءة لتأجيج المناخات والصراعات الطائفية المتوترة أصلا، إما لفائدة سياسية وإما لمنفعة شخصيات دينية، وأخيرا ربما لأن قدر الثورة السورية هو تسخير تضحياتها ودمائها الثمينة لنشر العقلانية في طرائق التفكير ورفض منطق الانتقام والغرائز العدوانية، والأهم لمحاربة زعامات دينية أدمنت الجمود والتقليد وتسعى لتجيير ما يحصل لتسعير صراعات هامشية وتحويل العالم إلى ساحة للتطرف والتعصب كي تكرس حضورها وامتيازاتها، فمصالحها تستدعي قتل الساسة وشعارات الحرية وشروط التعايش المشترك، وإلهاء الناس، تحت ادعاء وصايتها على كرامة الرسول والمقدسات، عن ممارسة دورهم الحقيقي في مقارعة المستغلين والمتسلطين وبناء مجتمع معافى يتشارك القيم الأخلاقية والإنسانية التي تجمع عليها كل الأديان.
يثير المتطرفون الإسلاميون مسألة الكرامة لرفض قيم الربيع العربي التي تضحي الشعوب من أجلها، ولسان حالهم يقول: لا نريد حرية وديمقراطية يهان بها رسولنا الكريم وتتعدى على مقدساتنا، وفي المقابل تقول الثورة السورية إن الحرية والكرامة ورفض العنف والقتل هي من جنس واحد في القيم الدينية، فلا كرامة بلا حرية، ولا حرية من دون رفض الاستبداد ولغة الثأر والقهر.
أكرم البني
«براءة المسلمين» وثورة السوريين! . .
- التفاصيل