تدوينة بقلم : د. محمود نديم نحاس
على أحد مداخل مدينة حلب في شمال سوريا هناك لوحة مكتوب عليها (حلب أقدم مدينة في التاريخ)، إذ يتجاوز عمرها عشرة آلاف عام، وهي متحف تاريخي فريد، وقد أدرجتها اليونسكو على لائحة مواقع التراث العالمي، إذ فيها أكثر من 150 مَعْلَماً أثرياً من أهم الشواهد المعمارية التي تمثل مختلف الحضارات الإنسانية (الأمورية والحثية والآرامية والآشورية والفارسية والهيلينية والرومانية والبيزنطية والإسلامية). وتم تسجيل المدينة القديمة ضمن السجلات الأثرية، ووُضعت إشارة على صحائفها العقارية تثبيتاً لعدم جواز هدمها أو تغيير معالمها أو مواصفاتها حتى من قبل بلديتها إلا بعد أخذ موافقة الجهات الأثرية العالمية. وقد اختيرت مدينة حلب التاريخية لتكون عاصمة للثقافة الإسلامية لعام 2006.
في العصر العباسي برزت حلب كعاصمة للدولة الحمدانية، فَلَمَعَ في بلاطها عدد من العلماء والمفكرين والأدباء والشعراء (كالمتنبي وأبي فراس الحمداني) وعلماء اللغة (مثل ابن خالويه وابن جني).
وفي العصر العثماني كانت ثاني أهم مدينة في الإمبراطورية العثمانية بعد إستانبول، إذ كانت تتبع لولاية حلب عدةُ مدن مثل عنتاب ومرعش وأضنة ومرسين وإسكندرون التي كانت ميناءها الرئيسي. وكانت السفارات الغربية في إستانبول، أما القنصليات فكانت في حلب.
وحلب اليوم أكبر المدن السورية من حيث عدد السكان، إذ يسكنها حوالي أربعة ملايين نسمة. وهي مركز محافظة حلب، فيكون عدد سكانها مع ريفها حوالي ستة ملايين نسمة، أي أكثر من ربع سكان سوريا. وسكانها أعراق متنوعة تضم العرب (وهم الأكثرية) والأكراد والأرمن والشركس والتركمان وغيرهم، وتتجانس فيها الإثنيات والأديان منذ القدم، يتعايشون جميعاً في جو من الود والإخاء، يُعدُّ مضرباً للمثل في الشرق الأوسط.
وحول اسمها هناك عدة روايات، والتفسير الأكثر قبولاً هو أنه محرَّف من اسمها باللغة الآرامية وهو (حلبا) التي تعني البياض نسبة إلى بياض تربتها وحجارتها. وتُشتهر حلب بقلعتها الفريدة وأبوابها وأسواقها ومساجدها ومدارس العلم فيها وصناعاتها، وتحمل تراثاً متميزاً في كافة المجالات العلمية والفنية والأدبية والثقافية.
وحلب هي العاصمة الاقتصادية لسوريا، إذ تعطي أكثر الناتج الإجمالي السوري. وهي مدينة تجارية منذ القدم، فهي في موقع استراتيجي على طريق الحرير التجاري الذي يربط الشرق بالغرب. وفيها أكبر سوقٍ شرقيٍ مسقوفٍ في العالم، بمساحةٍ تعادل 16 هيكتاراً وبطولٍ يعادل 16 كيلومتراً، وقد شيدت معظم أجزائه في القرن الرابع عشر الميلادي، وسميت حسب أسماء الحرف والمهن المزاولة فيها، مثل سوق الصوف، وسوق الصياغ، وسوق الحدادين، وسوق النحاسين، وسوق النسوان (للمستلزمات النسائية)، وقس على ذلك. ثم هناك خانات متواجدة حول الأسواق مازالت قائمة حتى الآن.
والخانات أبنية مخصّصة لإقامة المسافرين وقوافل التّجار، إضافة لكونها مكاناً لعرض تجارتهم وبيعها. وقد اشتُهرت بواجهاتها المُزيّنة بزخارف جميلةٍ ومداخلها القوسيّة الضّخمة التي كانت تُغلَق بأبواب خشبية مصفّحة بالحديد والنّحاس، وأكثر باحاتها مسقوفة بالقباب. ولكل بضاعة خان يرتبط اسمه بها، مثل خان الحرير وخان الزّيت وخان البرغل وخان الصابون، أو قد يرتبط باسم صاحبها مثل خان القاضي وخان خيري بك وخان الوزير. وبعضها عظيم الإتّساع كخان الجُمرك الذي يضمّ اثنين وخمسين مخزنًا، وسبعًا وسبعين غرفة، وسوقين مبنيين بالحجر المُهندَم، يصل إليهما الضّوء من قببٍ عشر تعلوها، ومجموع دكاكينه ثلاثمائة وأربعة وأربعين، وإلى جانبها سبيلان ومسجد.
كل هذا في المدينة القديمة التي يحيط بها سور منيع صدّ عنها هجمات الغزاة، وهو يشكل دائرةً نصف قطرها خمسة كيلومترات، وله تسعة أبواب، مازال خمسة منها قائمة حتى اليوم. وفي مركز المدينة القديمة تقع قلعة حلب الضخمة على تلة مرتفعة، مشرفةً بذلك على كافة أحياء المدينة القديمة. وتتعدد الطرز المعمارية في المدينة القديمة، إذ تجمع أنماطاً معمارية سلجوقية وبيزنطية ومملوكية وعثمانية. أما الأحياء خارج سور المدينة القديمة فتجمع العديد من الطرز المعمارية الشرقية، والكلاسيكية الغربية، وحتى الصينية، وذلك بفضل مهارة الصنّاع في قطع الصخور من الحجر الأبيض الذي تُشتهر به حلب.
ومن معالم المدينة القديمة الجامع الأموي الكبير، الذي بناه الخليفة الأموي وليد بن عبد الملك عام 715م. وطرازه الحالي يعود لنور الدين زنكي الذي أعاد تشييده عام 1158م. لكنه تأذى بشدة أثناء الغزو المغولي عام 1260م، فتمت إعادة بنائه. والغرفة التجارية في حلب من أقدم غرف التجارة في الشرق الأوسط والعالم العربي، وقد أُنشئت عام 1885م. وإضافة إلى التجارة فإن حلب مشهورة بالصناعة أيضاً. فمن صناعاتها القديمة، التي مازالت مشهورة بها، الحفر والنفش على الزجاج، والصناعات النحاسية، ومشغولات الذهب والصياغة والأحجار الكريمة، وصناعة صابون الغار، وهو من أجود أنواع الصابون، وإنتاج زيت الزيتون حيث تكثر أشجار الزيتون في ريفها. ويقدر حجم الاستثمارات في مصانعها الحديثة بعدة مليارات دولار، تم استثمارها في صناعات النسيج والملابس الجاهزة، والصناعات الكيميائية، والصناعات الدوائية والتجهيزات الطبية، والصناعات الغذائية، ودباغة الجلود وصناعة الأحذية، والصناعات الكهربائية المنزلية. وفيها أكثر من 50% من العمالة الصناعية السورية.
والمطبخ الحلبي يتميز بتنوع أطباقه اللذيذة، ويُقال عنها: حلب أم المحاشي والكبب. والكباب الحلبي منتشر عبر العالم. وقد فاز مطبخها بجائزة التذوق من قبل أكاديمية الطبخ والتذوق العالمية عام 2007م. وتتميز أيضاً بصناعة الحلويات العربية التي تتضمن في الغالب الفستق الحلبي الشهير. ويمر في حلب قطار الشرق السريع الذي ينطلق من أوربا عبر إستانبول فحلب فبغداد أو بيروت وذلك منذ عام 1919م. ومنها ينطلق القطار إلى دمشق ضمن الخط الحديدي الحجازي الذي بُدء بإنشائه سنة 1900م وبدأ تشغيله سنة 1908م لتسهيل نقل الحجاج والمعتمرين إلى الحرمين الشرفين. أما مطار حلب فقد تم إنشاؤه في بداية العشرينيات من القرن الماضي.
مدينة حلب هذه، لم تشفع لها كل هذه المعطيات أن تسلم من قصف طائرات الميغ، فامتزج هواؤها برائحة الدم المسفوك. لقد شهدنا على الشاشات احتراق السوق القديمة، وضرب المسجد الكبير، وتدمير العمارات، ووقوع الضحايا، وامتزاج الدماء بأرغفة الخبز، ونزوح السكان. سألت صديقاً سورياً زار حلب مؤخراً عن حجم المأساة فقال لي: ليس عندي ما أضيفه إلى ما تراه على الشاشات سوى عبارة واحدة: ليس من رأى كمن سمع، فالخراب هائل، وأكثر من مليون ونصف يعيشون مشردين في حلب وريفها في أوضاع إنسانية بائسة، عدا عن الذين نزحوا إلى المدن الأخرى والدول المجاورة. وعندما حاولت التأكد من كلمة مليون ونصف، أجابني بأنه اطلع على قوائم إحدى المنظمات الإغاثية فرأى عدد الأسر المشردة في جداولها قد بلغ أكثر من ثلاثمائة ألف أسرة. وأضاف إن أهم ما يجب تأمينه لهم هو الماء والخبز وحليب الأطفال والبطانيات لاسيما مع دخول الشتاء القارس.
وقد قرأت ما كتبه جوناثان ستيل في صحيفة الجارديان اللندنية في الثامن والعشرين من أكتوبر: لقد وقعت حلب ضحية لأسوأ تخريب حصل لأي مدينة رئيسية في العالم منذ 1945م. ويضيف بأن أكثر من ثلث سكانها صاروا مشردين. مؤكداً ما كتبه آخر: الأسرة باتت ثلاثة أثلاث: ثلث للموت، وثلث للسجن، وثلث لمخيمات اللاجئين. إن هذه الجريمة بحق هذه المدينة لا مثيل لها سوى جريمة نيرون الذي أحرق روما في السنة الرابعة والستين الميلادية. وتقول كتب التاريخ: وبينما كانت النيران تتصاعد والأجساد تحترق وفي وسط صراخ الضحايا كان نيرون جالساً في برج مرتفع يتسلى بمنظر الحريق الذي خلب لبه، وبيده آلة الطرب يغني أشعار هوميروس التي يصف فيها حريق طروادة! واليوم لا حاجة لبرج مرتفع لأن الطاغية وهو في قصره محاط بعدد من الشاشات التي تنقل إليه ما يجري في أنحاء سوريا فيتسلى بمنظر القتلى والدمار، ربما لأنه يريد أن يدخل في مسابقة مع بول بوت، الزعيم الكمبودي الشيوعي الماوي الذي قتل حوالي مليونين من شعبه المسالم، أي ما يعادل خمس السكان، خلال فترة حكمه التي امتدت ثلاث سنوات فقط.
حلب تستنجد
- التفاصيل