تدوينة بقلم : د. محمود نديم نحاس
لم أتمالك نفسي عندما رأيت على قناة العربية العقيد السوري المنشق عناد العباس تخنقه العبرة وهو يصف حالات التعذيب التي تعرض لها مواطنوه على يد قوات الأمن.
أعلن انشقاقه في يوليو الماضي، وكان يشغل منصب رئيس فرع الديوان العام في مكتب وزير الداخلية السوري. لخص عمله بما يلي: يأتي البريد من الوزارات والجهات الرسمية ومن السفارات السورية ومن وزارات الخارجية والداخلية العربية والأجنبية، فيتلقى الديوان العام البريد ويصنفه ويعرضه على وزير الداخلية. وبعد أن يضع الوزير توجيهاته الخطية يقوم الديوان العام بترجمة هذه التوجيهات وإحالتها إلى الجهات المختصة، كما يقوم بصياغة أفكار الوزير أي بكتابة التوجيهات وفق التوجه العام للوزارة.
وصف الوزير السابق بأنه كان ضد القتل، بل كان يحد من أعمال القتل التي فاحت رائحتها في جميع الأجهزة الأمنية السورية، مما أدى إلى عزله وتعيين الوزير الحالي، الذي أراد أن يثبت أنه على قدر المسؤولية، فبالغ في إعطاء تعليمات القتل لكافة الأجهزة التابعة لوزارته. إنه يستخدم تعليمات القتل شفهياً على الهاتف وعلى اللاسلكي، أما في الأوامر المكتوبة فيستخدم تعبير "قمع المظاهرات والاحتجاجات بكافة الوسائل".

يتبع لوزارته 14 قيادة شرطة (قيادة في كل محافظة)، وإدارات أخرى، ويمتد ذراع الوزارة إلى أصغر قرية سورية. كما يتبع له (نظرياً) شعبة الأمن السياسي، التي تتدخل، كما يقول، حتى بما يجري في غرف النوم للمواطنين. ويؤكد أنه منذ أحداث تونس فقد قرر النظام السوري مواجهة أي تظاهرة أو اعتصام بالقوة.

يقوم طاقم الوزارة بإعداد تقرير يومي يلخصون فيه الأحداث في البلد، يوقع عليه وزير الداخلية ويتم إرساله مع شرطي ليسلمه إلى مدير مكتب رئيس الجمهورية. ويحتوي التقرير على الوقائع والحقائق عارية، أي من غير تجميل، بما يحصل في كافة أنحاء البلد من قتل وهتك للأعراض وانتهاكات لحقوق الإنسان. وهنا تسأل المذيعة: مثل ماذا؟ فيجيب: تقرير من درعا مثلاً يقول: قتلت قوات الأمن خمسة عشر مواطناً، وجرحت عشرين، وخرجت مظاهرة في الشارع الفلاني تنادي بإسقاط النظام وإعدام الرئيس. أي أن الرئيس يطّلع على التفاصيل الصادقة عما يجري على الأرض. وتسأل المذيعة: هل كان الرئيس يقرؤها؟ يقول: كنا نفرغ من كتابة التقرير بين الواحدة والثانية بعد منتصف الليل، ونرسل التقرير إلى قصر الرئيس فيعود التقرير بعدها وعليه التعليمات والتوجيهات بالتعامل مع المظاهرات والاحتجاجات. وتسأل المذيعة: ما هي التعليمات؟ فيجيب: مواجهة ومجابهة المظاهرات والاحتجاجات بكافة الوسائل! وكان بعض قواد الشرطة في المحافظات يتصل بالوزارة ليستفهم عن معنى العبارة خوفاً من أن يتخذ المسؤولية منفرداً، فكان الوزير يرد بأنه لا يريد أن يرى على شاشات التلفزة أي مظاهرة! بالرصاص، بالقتل، بالضرب... المهم ألا يرى أي مظاهرة. ومن لا يقبل من هؤلاء القواد التنفيذ فمصيره العزل من المنصب، بالنقل إلى منصب غير فعال، أو بالتسريح، أو القتل، أو يدفعونه قسراً لقتل الشعب، وقد يقتله الشعب.

ويؤكد أن التقارير التي وصلت خلال عدة أشهر من بداية الثورة لم تتضمن إطلاق نار من الثوار، أي أن المتظاهرين كانوا سلميين.

أما هو فلم يستطع الخروج من سوريا وإعلان انشقاقه إلا بعد أن أخرج من البلد أهله وإخوته وأخواته وأعمامه وأسر كل هؤلاء ومثل ذلك أقارب زوجته، بحيث بلغ عدد من أخرجهم قريباً من مائتي شخص قبل أن يلحق بهم، وما ذاك إلا لعلمه بأن النظام ينتقم من أقارب المنشقين.

ويضيف: النظام السوري من أكبر الأنظمة الفاسدة، والضباط من أكبر الفاسدين في الدولة. وتحدث عن نفسه فقال: إن السلطة التي كان يتمتع بها كبيرة جدا، وأن عدداً من السيارات كانت تحت تصرفه.

ويؤكد أن الشبيحة أقذر من عناصر الأمن، إذ ليس لديهم مبادئ، فحلم أحدهم هو أن يحمل بارودة وأن يأخذ رواتب مغرية وأن ينقض على أعدائه. والشبيحة ليسوا من طائفة بعينها بل من كافة الطوائف، ويشرف عليهم مخابرات القوى الجوية.

ويتحدث الضابط كيف نقله الوزير إلى مدينة سلمية لأنها هادئة نسبياً، وفيها نسبة كبيرة من الطائفة الإسماعيلية. وقد حاول النظام زرع الفتنة الطائفية بينهم وبين أهل السنّة، فكانت المظاهرات تخرج فيها يومياً، لكن التعليمات لقوات الأمن بعدم القمع، بل بالتفريق، في حين كانت سياسة القمع هي المسيطرة في المدن الأخرى. إنما هذا لم يمنع الاعتقالات ولا التعذيب. ثم إن النظام أرسل من يوتّر الأجواء بين الطائفتين، وذلك بنشر إشاعة بين كل طائفة لإثارتها ضد الطائفة الأخرى، فحالت حكمة وجهاء الطائفتين دونها.

ومما عجّل بانشقاقه إطلاق النار على جنازة أحد الشهداء ووقوع ضحايا جعل أحد المشيعين يقول لهذا الضابط: لو كان عندك شرف لوقفت معنا.

وتسأله المذيعة: على ماذا أنتم نادم؟ فيجيب بأنه نادم على بقائه أكثر من سنة مع النظام! وتسأله: لو كنت مع الثورة وسمعت ضابطاً يتحدث بما تحدثت به هل ستشعر بمصداقيته، فيجيب: لا. ويقول: بقيت سنة مع النظام ويجب أن أدفع ثمن بقائي. وتسأله: كيف؟ فيقول: بأن كل الذين تأخروا في الانشقاق يجب ألا يعملوا في المرحلة المقبلة، بل أن يقتص الشعب منهم. فالمواطنون الذي تم تعذيبهم واقتلاع أظافرهم، أو الذين تم وضعهم على الخازوق، أو الأشخاص الذين أعمارهم فوق السبعين وتم تعليقهم من أرجلهم في السقف، والنساء اللواتي تم اغتصابهن، والأمهات اللواتي تم قتل أطفالهن، وكل الصور المروعة التي نشاهدها على شاشات التلفاز وهزت العالم ولم تهز أركان النظام... يقول: فهذا العام الذي قضيته مع النظام يجب ألا يسامحني عليه أبناء بلدي. يجب أن تكون سوريا المقبلة خالية من أمثالنا، لأننا بقينا مع نظام قتل أكثر من ثلاثين ألفاً من شعبه، وهناك عشرات الآلاف من المعتقلين، وملايين من المهجرين، فكيف استطعنا أن نبقى سنة مع النظام؟ فتسأله: كيف؟ فيقول: لا مبرر، وليس هناك أي عذر. فلا أستطيع أن اقنع المعذبين والمشوهين وأمهات الشهداء، فهؤلاء يريدون أفعالاً، إذ كان يجب الانشقاق منذ اللحظة الأولى. وأقول هذا لمن سينشق في المستقبل أو لمن بقي مع النظام حتى الآن. فالنظام قائم على أكتاف هؤلاء الذين لو تخلوا عنه لانهار. إنه قائم على الضباط الذين غرقوا في الدم السوري.

ويأمل أن يعمل محامياً فهو يحمل شهادة في القانون، ويشدد بأنه مع المحاسبة وليس مع الانتقام، ويرى أن الشعب السوري ليس بطائفي، ويستبعد الحرب الطائفية.

JoomShaper