د. محمود نديم نحاس
الأخنس هو من انخفضت قصبة أنفه مع ارتفاع قليل في طرفي الأنف، والأنثى خنساء. وقد حازت الصحابية تماضر بنت عمرو على هذا اللقب لاتصافها بهذه الصفة. واشتُهرت قبل إسلامها ببكائها الشديد على أخويها صخر ومعاوية ورثائها لهما في قصائد عديدة، منها :
أَعينيَّ جودا ولا تَجمُدا *** ألا تبكيانِ لصخرِ النّدى ؟
ألا تبكيانِ الجريءَ الجميلَ *** ألا تبكيانِ الفَتى السيّدا ؟
لكنها بعد إسلامها وتغير نظرتها للحياة قالت عندما جاءها خبر استشهاد أولادها في معركة القادسية في السنة الخامسة عشرة للهجرة (الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم، وأدعوه أن يجمعني بهم في مستقر رحمته). فذهب كلامها هذا مثلاً، وصار لقبها (الخنساء) يُطلق على كل أم صابرة محتسبة تستقبل خبر استشهاد أفلاذ كبدها.
قبل أربعة أيام طالعتنا الأخبار بوفاة خنساء فلسطين، مريم فرحات، التي كانت تزف أبناءها إلى الشهادة طالبة منهم أن يعودوا منتصرين أو شهداء، فهي لا تريد أن تراهم أسرى. وأنا أكتب هذه المقالة اليوم – الخميس الحادي والعشرين من آذار/مارس 2013م - يحتفل العالم العربي بيوم الأم وتُقدم الهدايا للأمهات من باب تذكّر فضلهن، لكن الهدايا المقدمة إلى خنسوات سوريا هي مزق من أجساد أولادهن تقدم لهن ليس اليوم فحسب بل على مدار عامين.

أيّ احتفال ينتظر الأم السورية وهي أم شهيد، أو والدة معتقل، أو ربة أسرة حملت أطفالها لتدفع عنهم شبح الموت، فتركت بيتها المدمّر لتقيم مع أولادها في مخيمات العراء في البلدان المجاورة. أي يوم للأم بشرى تلك الشابة ذات التسعة عشر ربيعاً والتي فقدت زوجها وخسرت كل ما كانت تملكه بعد أن أكلت النيران منزلها فاضطرت إلى بيع ذهبها لتنتقل مع طفليها إلى دولة مجاورة لتقيم مع عشرين فردا من عائلة زوجها، في منزل لا تتعدى مساحته عشرين مترا مربعا، أرضه مغطاة بحصائر تالفة، وسقفه من الحديد المثبت بإطارات مطاطية، ويقع في زقاق تغمره المياه الآسنة، لتصبح هناك "اللاجئة السورية رقم مليون" في الدول المجاورة كما أخبرها مسؤول المفوضية العليا لشؤون اللاجئين. وحينها دمعت عيناها لأنها أدركت أن ثمة مليون سوري يعيشون التجربة نفسها، لكنه لم يقل لها أن هناك أربعة ملايين يعيشون في العراء داخل بلدها، وأن نصف هؤلاء - حسبما تقول منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) - هم من الأطفال دون سن الثامنة عشرة، ومنهم أكثر من نصف مليون طفل دون سن الخامسة.

هذا عدا عن الأطفال الذين قُتلوا خلال السنتين الماضيتين، والأطفال الذين أصيبوا بتشوهات وتعرضوا للإيذاء الجنسي والتعذيب والاحتجاز التعسفي، كما تعرضوا لصدمات نفسية من رؤية أفراد أسرهم وهم قتلى، ومن فصلهم عن آبائهم وترويعهم بواسطة وابل القصف الذي لا يقف عند حد. إضافة إلى تدمير مدارسهم وضياع أحلامهم ومستقبلهم، فأنّى لهؤلاء أن يقدموا لأمهاتهم هدايا؟. وتمتلئ صفحات الإنترنت بالحديث عن خنساوات سوريا الصابرات المحتسبات، وهن يستلمن كل يوم أشلاء أولادهن الذين يموتون من القصف، أو جثث أبنائهن الذين يموتون تحت التعذيب، أو مازلن يعشن الأمل بعودة فِلَذِ أكبادهن المعتقلين، أو ينتظرن من يعطف عليهن فيخبرهن في أي حفرة تم دفن أولادهن، فلعل دمعة واحدة على القبر تخفف من المصاب.

فمن يطبع القبلة على أيديهن أو جباههن في يوم الأم؟ ومن يقدم لهن وردة أو هدية؟ ومن يتذكرهن في هذه المواقف العصيبة ؟

فياربنا رحماك رحماك بالأمهات الثكالى، والأولاد اليتامى، والشيوخ الحيارى، والعجائز الركّع، والأطفال الرضّع، رحماك بالضعفاء، وبالنساء.

تحدّث الجرحُ يا أماه فاستمعي *** إليه واعتصمي بالله واحتسبي

JoomShaper