أحمد ملحم الجرباء
المعرفة بحر محيط، عميق الغور، متسع الأرجاء، نصيبنا منه ضئيل يسير، فما أنت في هذا العالم إلا قطرة من ماء ذلك المحيط، لا تحيط بأسرار لغتك، فما بالك بلغات العالم التي لا تعد، لا تعرف تضاريس بلادك، فما بالك بتضاريس بلاد الآخرين، لا تعرف المعالم الكبرى من تاريخك، فما أنت وتاريخ البشرية الزاخر بالأحداث على مر العصور، استجلب كل ما تعيه ذاكرتك المنكوبة بهذا العصر تجد منطقة الوعي والإدراك صغيرة تكاد تقبض عليها بيد واحدة.
اطلعت على اليسير من التجارب، وقرأت القليل من الكتب، عشت رتابة الأيام ولياليها المملة، وبحثت عمَّا يحيي ما مات من الذاكرة، وينعش ما بقي منها في الحياة، كنت تحلم بأحلام جميلة كبيرة، وجاءتك كوابيس مخيفة لم تكن في الحسبان.
لم تكن تدري أنَّ للمعرفة مواسم تزدهر فيها وتنمو بوتيرة عالية، تتكاثر فيها بلا حساب، يجلبها الأسى، وتأتي بها الأحزان، تنشط في الأهوال، وتزداد بعد الفجائع، تزدحم الصور والمعارف عند ناشدي الحرية وعاشقي الأوطان، تتراكم الخبرات في ألوان الأوجاع وأسباب شفائها.
سنتان من عمر الثورة أو تزيدان قليلاً، وها هو غبار التاريخ يتجمع بضجيجه من جديد، ضاربًا الذاكرة بخاصرتها لتنشط بعد كسل طويل، الغشاوة زالت، والنائم استيقظ، وكأنما الماضي حي لا يموت.
زادت المعرفة أضعافًا مضاعفة في زمن مكثف مضغوط، لغة الأمس غابت، الرايات تبدلت والشعارات استهلكت، نغمات الأصوات تغيرت، لغة الضاد غدت فارسية بلكنة عبرية، الممانعة والمقاومة والنضال تجاوزت مفاهيمها المرحلية واتجاهاتها القديمةـ التي كانت مصممة للتجارة والتسويق وبناء السمعةـ إلى مفاهيم واتجاهات تنسجم مع العقيدة الواردة من وراء النهر، الغائرة في التاريخ المندثر، البندقية الموجهة للعدو الافتراضي وجدت عدوها الحقيقي الذي تحمل له ضغينة لا سقف لها، وحقدًا لا حدود له، اللحى التي كانت تربى إحياء للسنة النبوية الشريفة غدت تربى لقتل أهل النبي الكريمـ عليه صلاة ربي وسلامهـ وبنيهم، والعمائم التي كانت تزين الرؤوس وتنبئ عن طهر ونقاء وشهامة غدت علامات لقتلة الأطفال ومغتصبي النساء ومستبيحي الأوطان.
كنا نعرف موتًا واحدًا يرتاد ديارنا في أوقات متباعدة على استحياء، يزور مريضًا بمرض مميت أو مصابًا تعرض لحادث، أو شيخًا أنهكته الشيخوخة وملَّ الحياة، يموت على فراشه، يحيط به أهله ومحبوه، يسجى مكرمًا معززًا، يغسل جسده ويطيب، يشهد له المعزون بالمناقب الكريمة والمزايا الفريدة، ويشيع إلى مثواه الأخير بعد الصلاة عليه، داعين له بالرحمة والمغفرة، يفارق أحبابًا حزانى وصابرين، ويرحل ضيفًا لرب كريم، ما أجمل الحياة كانت، وما أجمل الموت كان.
وغدونا نراه صبحًا وعشية، ظهرًا وعصرًا، في الهزيع الأخير من الليل، وعند إطلالة الصباح، يجيء على غير موعد، من النافذة، من الباب، من السقف، من حيث ندري ولا ندري، يرتاد الأحياء السكنية فيسقط على العمارة الكبيرة وعلى المنزل الصغير، على الإسمنت وعلى الطين، على بيت الشعر وعلى الخيمة، يحط في الشارع وفي الحدائق، يهد أركانها، يلغي ساكنيها، يمحو معالمها، مهمته الإبادة والحرق والتدمير.
يطلع علينا من الزوايا والمنعطفات، يسقط علينا من السماء، فأسه في يده، ورؤوسنا في متناولها، يجيء بطائرة ترمي حمولتها من البراميل المتفجرة، أو تنشر سمومها من الغازات المميتة، لا يعاني من حيرة يعانيها من ينتقي الضحية، ولا يستقصي كي لا يقع في العنوان الخطأ، يسقط على الجميع، على الجنين في بطن أمه، وعلى الطفل في مدرسته أو في سريره، وعلى الأم وهي تطعم أطفالها، وعلى الأب وهو يزهو بأزهاره ووروده، على الجد الطاعن في السنِّ وعلى الجدة التي ارتسمت على وجهها تجاعيد السنين، كلهم لدى القتلة سواء، جثث ممزقة تسحب من تحت الأنقاض، فلا وقت للبكاء، ولا وقت للعزاء، يغامر الأحياء بحفر القبور الجماعية ودفن الشهداء، يتبادلون النظرات الحزينة بصمت، ويرفعون عيونهم الشاكية إلى السماء.
أفتت المرجعية بذلك، قتال الأمريكيين المحتلين في العراق حرام، وقتل المواطنين الأبرياء في سوريا ولبنان والعراق واليمن والبحرين حلال، المرجعية التي ناصبت البعث العراقي العداء، تبنت البعث السوري، وهما فرعان لفكر علماني واحد، ليس للدين فيه من نصيب، قالت لغلامها الصفيق- بشفقتها المعهودة على دماء المسلمين وعدائها الشهير للأمريكيين واليهودـ : دع صواريخ أبناء داود تنزل على قاسيون، وعلى دير الزور، وعلى عين الصاحب، وفي أي موقع آخر تريده من البلاد، فهي لا تحمل لك ضغنًا ولا عداء، دعها- حتى لو نزلت بفناء قصرك- فهي نيران صديقة، تبعد عنك الشبهة، وتنفعك في الغد يوم تنطلق الألسنة، وتقف معك إن لزم الأمر، وها هي قد وقفت يوم تجرأ عليك الثوار عند حدودها ، دعها وقل سأرد في الوقت المناسب، سيصدقك المغفلون، ويستحسن ذلك منك المحبون.
كنا نقرأ عن التجويع والحصار والتعذيب والتمثيل بالجثث وعن التشريد، عن اللجوء والمنافي في القصص والروايات، وكنا نتهم الكتاب بالمبالغة، ولكننا في هاتين السنتين، ذقنا كل هذه الويلات، فها هي ديار أهلنا تقفر من ساكنيها، نبحث في كل وجهة عن وجه حبيب رحل، فيعجزنا البحث، تخوننا قوانا وننكفئ إلى الأطلال نسألها ولا تجيب.
سنتان من عمر الثورة المباركة المنصورة بإذن الله، ولهيب في القلب لا ينطفئ، وشعلة المعرفة تتوهج، تكشف مساحة ما كنا نجهل من دجل الساسة، وتدليس الإعلام، وتآمر اللاعبين الدوليين.
علمتنا الثورة أنَّ لسوريا وضعًا خاصًا ليس لغيرها من الدول العربية التي قامت بها الثورات، فالطاغية فيها سليل خيانة، ورث دور الحارس لحدود إسرائيل، ودور المتعهد لأهم الأجزاء من المشروع الفارسي في المنطقة، ولولا هذان الدوران الخيانيان لكان زواله أسرع ممن سبقه من الطغاة.
علمتنا الثورة المباركة أنَّ نظرية المؤامرة على العالم العربي والإسلامي حقيقة واضحة لا تحتاج إلى براهين بعد الخذلان المرير للدماء البريئة، والمساندة المستديمة لعصابة الطاغية وإنعاشها بكل الوسائل كلما أحدق بها الخطر، وبعد توزيع الأدوار المريب بين الشرق والغرب في منظمة الأمم التي تدار بخبث شيطاني من حكومة العالم الخفية.
علمتنا الثورة أنَّ أمن إسرائيل هو الذي يحدد اتجاهات السياسة العالمية ويمنح درجات الرضا والحظوة والمساندة للأنظمة والحكومات الإقليمية أو الغضب والنفور منها، ويرسم الخطط الإعلامية لإعلاء شأن النافعين في هذا المجال، والإضرار بالأعداء المحتملين أو بمن يمكن أن يشكل خطرًا على هذا الأمن في يوم من الأيام.
علمتنا الثورة أنَّ الدعاوى المذهبية الضيقة، والتخفّي خلف الشعارات التي تهواها جموع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها كحب آل البيت، والانحياز للعترة النبوية الشريفة، ورد المظالم التي طالتهم على مر التاريخ، والبريق الكاذب للممانعة والمقاومة، هي أدوات صنعة وقفازات محترفين، تستخدم كلما دعت الحاجة لتمرير المشاريع التي تفتك بكيان الأمة والقضاء على حلمها في التحرر والنهوض.
علمتنا الثورة أنَّ أحرار الفكر وأصحاب الضمائر الحية يقفون دومًا مع الحق حتى وإن كان انتماؤهم العرقي أو الطائفي في الجانب الآخر، وعلمتنا أنَّ منحرفي الفكر ومن بهم مرض يقفون مع الباطل حتى وإن كان انتماؤهم العرقي أو الطائفي لأهل الحق، وعلمتنا الثورة أنَّ الأفراد والجماعات البشرية لديها طاقات عجيبة على السمو ترفعها إلى مصاف الملائكة عندما تزكو نفوسها، كما أنَّ لديها القدرة على التخلي عن إنسانيتها والانحطاط إلى درك لا قعر له حتى لترأف بحالها البهائم والوحوش.
نعرف من دروس التاريخ أنَّ قبائل عربية عريقة سقطت اجتماعيًا سقوطًا مدويًا لا زالت تعاني من أوجاعه ونتائجه لوقوفها مع أعداء الأمة في سبيل مصلحة عابرة ومنفعة زائلة، وأرتنا الثورة كيف أن بعض مرضى النفوس يقفون الآن نفس الموقف في سبيل مطمع شخصي هزيل، يساندون الظالم في ظلمه لأمتهم، ويجرون أهلهم وقبائلهم إلى ذات المصير.
سنتان من عمر الثورة أكسبتنا فهمًا جديدًا بتاريخنا، ووعيًا بجغرافيتنا، وإدراكًا بتنوعنا، وانحيازًا لقيمنا ومعتقداتنا، وتصميمًا على النصر أو الشهادة، وحافزًا للبحث عن مصالح أمتنا وأوطاننا بعيدًا من المشاريع المشبوهة ومخططات الأعداء.
خذلت الثورة أمنيات كيسنجر في وصيته للقاتل المحترف مناحيم بيجن: (إني أسلمك أمة نائمة، والمشكلة أنها تنام ولا تموت، فاستثمر فترة نومها ما استطعت، لأنها إذا ما استيقظت فإنها تعيد في سنوات قليلة ما ضاع منها في قرون).
سنتان من عمر الثورة وها هي الحياة تسري في جسد الأمة، دم الشهداء جدد خلاياها النائمة، ها هو العملاق يتمطى، الجسد الذي خدر لقرون يستيقظ بإذن الله.
الثورة السورية والمعرفة
- التفاصيل