تغريد السعايدة
عمان- بعد العودة من رحلة عائلية كان من المفترض أن تكون ممتعة بكل تفاصيلها، تفاجأت الأمّ نُهى بتذمر ابنتها من أجواء الرحلة، حيث أكدت عدم استمتاعها بها رغم أن الوجهة تمّ اختيارها بناء على طلبها. والأمر لم يتوقف عند الرحلة فقط، بل لاحظت نهى أن ابنتها تشتكي بشكل متزايد من فقدان المتعة في الكثير من تفاصيل حياتها اليومية.
وتقول نهى إن ابنتها، البالغة من العمر (23 عاماً)، قد تغيّرت منذ تخرجها في الجامعة. لم تعد تفضل الخروج مع عائلتها أو صديقاتها كما كانت تفعل في السابق، وتعتبر أن كل ما يقومون به "ممل للغاية"، ولا تجد فيه أي متعة. بدلاً من ذلك، تميل لقضاء وقتها في متابعة المسلسلات والأفلام على هاتفها. لكن مع مرور الوقت، بدأت تشعر أيضاً بالملل والتذمر حتى من هذه الأنشطة، ما جعل الأم تشعر بالحيرة حيال كيفية مساعدتها على الخروج من هذه الحالة.
زاد الأمر تعقيداً عدم تمكن ابنتها من العثور على العمل المناسب، مما زاد من شعورها بفقدان الشغف تجاه أي شيء.
فقدان المتعة بالحياة وتفاصيلها حالة يتحدث عنها كثيرون من وقت لآخر، حيث يشعر البعض أن تفاصيل الحياة لم تعد تحمل الجمال كما كانت سابقا، وأن المتعة المعنوية تراجعت بشكل ملحوظ بين الأجيال المتتالية. يضاف إلى ذلك تأثير التطور التكنولوجي الذي أعاد تشكيل شكل الحياة، مما حصر مفهوم المتعة في أمور مادية قد يصعب على الكثيرين تحقيقها أو توفيرها لأنفسهم.
تلاشي المتعة في الحياة، أو في الأنشطة التي يقوم بها الإنسان عادة، ليس مجرد أمر عابر أو طبيعي، بل قد يكون حالة تصل إلى حد المرض النفسي. هذه الحالة تنتج عن تراكم العديد من الأسباب التي تتعلق بحياة الإنسان، وقدرته على التأقلم والتفاعل مع عائلته، أصدقائه، مجتمعه، وحتى في بيئة العمل. ووفقاً للدراسات النفسية، تُعرف هذه الحالة باسم "فقدان المتعة" أو "Anhedonia".
يتحدث مستشار أول الطب النفسي الدكتور وليد سرحان عن هذه الحالة، موضحاً أن هناك مصطلحين يُستخدمان في الطب النفسي لوصف فقدان المتعة بالحياة. الأول هو "Anhedonia"، وهو فقدان المتعة الذي يظهر بشكل رئيسي في حالات الاكتئاب، ولكنه قد يحدث أيضاً في اضطرابات نفسية أخرى مثل الفصام والقلق. وأشار الدكتور سرحان إلى أن تحسن أعراض الاكتئاب دون استعادة القدرة على الاستمتاع بالحياة يمكن أن يؤدي إلى سرعة الانتكاس.
أما المصطلح الثاني فهو "Dysthymia"، ويشير إلى حالة من تكدر المزاج المستمر التي تستمر لسنتين أو أكثر، ولا تصل إلى مستوى الاكتئاب الشديد. في هذه الحالة، يشعر المريض بعدم الاستمتاع بالحياة، ويفتقر إلى الحافز لأي شيء. وحتى عندما يقوم بأي نشاط، فإنه يؤديه كواجب فقط، مما يجعل حياته تبدو طبيعية ظاهرياً، لكنه يشعر من الداخل بأن لا شيء ممتع. وقد يصفه من حوله، بالعامية، بأنه "نكد". في كلتا الحالتين، سواء "Anhedonia" أو "Dysthymia"، هناك علاج وتدبير نفسي متاح. وغالبا ما تكون هذه الحالات عرضا لأحد الاضطرابات النفسية، مثل الاكتئاب أو القلق.
يرى الأختصاصي التربوي والنفسي الدكتور موسى مطارنة أن فقدان الإنسان للشغف والمتعة في الحياة والأنشطة اليومية التي كان يستمتع بها سابقاً غالباً ما يكون ناتجاً عن الشعور بالملل وتكرار ذات الأنشطة، نتيجة الروتين وغياب التجديد. الاستمرار في ذات الأمر من دون تطوير أو تغيير يؤدي إلى حالة من الملل، مما يخلق فراغاً يؤدي بدوره إلى فقدان المتعة. ويضيف أن هذا الأمر قد يكون طبيعياً إلى حد ما لدى بعض الأشخاص، حتى منذ الطفولة، حيث يظهر الشغف والمتعة في البداية، ولكن يتلاشى بمرور الوقت.
لماذا يحدث كل هذا؟ يوضح الدكتور موسى مطارنة أن السبب الأساسي يعود إلى الشعور بالملل والوصول إلى مرحلة من عدم التكيف الذاتي. حين يفقد الإنسان القدرة على تطوير ذاته، وأسلوب تفكيره، ومعتقداته، فإنه يبدأ بفقدان المتعة في أي شيء بالحياة. هذا الفقدان التدريجي للمتعة قد يؤدي إلى الشعور بعدم الالتفات لتفاصيل الحياة نفسها، ومن الممكن أن يتفاقم الوضع ليصل إلى مرحلة الاكتئاب.
في إحدى الاستشارات الطبية عبر أحد المواقع المتخصصة، أرسلت فتاة طلباً للنصح من أخصائي نفسي بشأن ما تعانيه من فقدان تدريجي للاستمتاع بجميع الأنشطة في حياتها. وأوضحت أن الأمر تطور ليصل بها إلى الشعور العميق بالفراغ، متسائلة إن كانت هذه الأعراض تشير إلى إصابتها بالاكتئاب. كما استفسرت عن إمكانية العلاج من دون الحاجة إلى تدخل طبي أو إذا كانت بحاجة إلى علاج دوائي أو سلوكي.
جاء رد المختص النفسي على استشارة الفتاة موضحاً أن فقدان الاستمتاع قد يكون أحد أعراض الاكتئاب، ولكنه أشار إلى أنه لا يمكن تشخيص الاكتئاب بناء على عرض واحد فقط. ونصحها بأنه إذا كان هذا الشعور يؤثر سلباً على حياتها الدراسية، العملية، أو الاجتماعية، واستمر لأكثر من أسبوعين، فمن الأفضل أن تراجع طبيبا نفسيا لتقييم حالتها بدقة وتقديم العلاج المناسب.
يوضح الدكتور سرحان أن أسباب فقدان المتعة في الحياة تتنوع، وأبرزها الاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب، القلق، والاضطراب الوجداني ثنائي القطب. بالإضافة إلى ذلك، تلعب العوامل البيولوجية دورا بارزا، مثل التغيرات في كيمياء الدماغ أو نقص بعض المواد الكيميائية مثل الدوبامين. كما يمكن أن تسهم الضغوط النفسية والتوتر المستمر في الشعور باليأس وفقدان القدرة على الاستمتاع.
يضيف الدكتور سرحان أن الاستخدام المفرط لبعض المواد مثل المخدرات أو الكحول يمكن أن يؤثر سلباً على الصحة العقلية. وتتمثل الأعراض في "عدم الرغبة في القيام بالأنشطة الاجتماعية أو الترفيهية، والشعور بالعزلة أو الانسحاب من التواصل مع الآخرين، بالإضافة إلى فقدان الاهتمام بالأشياء التي كانت ممتعة في السابق."
من أهم طرق العلاج التي ينصح بها الدكتور سرحان هي الالتزام بالعلاج النفسي إذا لزم الأمر، مثل العلاج السلوكي المعرفي (CBT) الذي يهدف إلى تغيير الأنماط الفكرية السلبية. كما ينصح بالالتزام بالأدوية إذا كان المريض بحاجة إليها، بناء على توصية الطبيب، حيث يمكن أن تساعد مضادات الاكتئاب في تحسين الكيمياء الدماغية وتقليل الأعراض. بالإضافة إلى ذلك، يشدد على أهمية إدخال تغييرات في نمط الحياة، مثل ممارسة الرياضة بانتظام، وتطوير علاقات اجتماعية صحية، واتباع نظام غذائي متوازن.
وفقاً للدكتور مطارنة، فإن الشخص الذي يعاني من فقدان المتعة في الحياة غالباً ما يفتقر إلى ثوابت واضحة وأهداف يبرمجها في حياته، كما يفتقر إلى تحديد أولويات وأهداف واضحة، وهي مهارة من مهارات تطوير الذات. يعتبر هذا النقص في تحديد الأهداف والشعور بالمتعة سمة من سمات الأشخاص الذين يواجهون صعوبة في الاستمتاع بالحياة.
ووفق مطارنة من الأهمية بمكان التغيير والتطوير واستحداث أفكار جديدة لتجنب الوصول إلى مرحلة الفراغ، الذي يمكن أن يؤدي إلى مشاكل نفسية وسلوكية.