أ.د.  ناصر أحمد سنه
من الحديد صنع الأجداد بعض ادواتهم وآلاتهم، بل صنعوا منه حليهم وزينتهم في وقت كان يمثل أندر وأغلي وأنفس المعادن، وتشير إلي ذلك مشغولات وجدت في مقابر عصر ما قبل الأسرات (3500-3100ق.م.)، ووجدت نقوش علي مقابر قدماء المصريين تشير إلي أن الحديد يوجد ضمن مكونات أحجار تنزل من السماء، فأولوه نوعا من "القداسة"، ويرجح المختصون أن هذه المشغولات قد صنعت من حديد النيازك المتساقطة، استنادا إلي أن بعضها وجد في صورة خرز أو انابيب  صغيرة بها تجاويف.
حتي مطلع القرن العشرين لم يدر بخلد العلماء ـ حتى اهتدوا إلي ذلك ـ أن كل الطبقات الكثيفة من ركاز الحديد (35.9% من مجموع كتلة الأرض)، سواء كان في صورته النقية أو بمركباته المتنوعة الناتجة من تفاعله مع عناصر أخرى، يمكن أن تكون قد أتت من خارج الأرض، ونزلت من السماء: "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ"(الحديد:25). وقد سميت باسمه إحدى  سور القرآن الكريم، فأرتفع بذلك شأنه وعلت مكانته. أختُـص هذا المعدن بالحديث عنه في ست آيات متفرقات من القرآن الكريم..كتاب الله‏ تعالي‏‏ علي النحو التالي‏:‏
(1)‏ (قل كونوا حجارة أو حديدا)‏ ‏ ‏(‏الإسراء‏:50).

(2)‏ (آتوني زبر الحديد)‏..... (‏الكهف‏:96).

(3)‏ (ولهم مقامع من حديد)‏ (‏الحج‏:21)‏.

(4)(..‏ وألنا له الحديد‏( (‏سبأ‏:10)‏.

(5)‏ (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد‏)(‏ق‏:22)‏

(6)( ..‏ وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس‏..)(‏ الحديد‏:25)‏

وكلها تشير إلي عنصرالحديد ماعدا آية (سورة ق) والتي جاءت لفظة‏ (‏حديد‏)‏ فيها في مقام التشبيه للبصر بمعني: "أنه نافذ قوي يبصر به ما كان خفيا عنه في الدنيا‏".‏

ويمتص عنصر الحديد من الطعام (الصحي المتوازن.. نوعاً وكماً) في الجزء العلوي من الأمعاء الدقيقة علي شكل ذرات أو يمتص علي هيئة "هيم" جله من اللحوم الحمراء. ثم يدخل الحديد في تركيب هيموجلوبين الدم (مادة " الهيم" Haeme ). وكل جزء من "الهيم" يمكنه حمل 4 جزيئات من الأكسجين إلى الخلايا لترويتها.

الهيموجلوبين الموجود في كريات الدم Red blood cells or Erythrocytes يعطيها اللون الأحمر (يقوم جسم الإنسان السليم بتكوين 500 مليون من كرات الدم الحمراء كل دقيقة، 30 بليون كل ساعة). لكن الباحثين حول اللون الأحمر للدم لم يصلوا عمليا إلى تفسير جوهري عن: لماذا يتميز الدم بلونه الأحمر بينما ويتميز النبات والكلوروفيل بلونه الأخضر، علي الرغم من أنهما لونان متكاملان؟.

لقد درس العلم بإسهاب فائدة اللون الأخضر للكلوروفيل ودوره الرئيس في الاستقلاب الضوئي، لذا يطرح سؤال: "إذا كان  اللون الأحمر للدم يشير إلى الإشعاعات الأكثر قوة في ضوء الشمس، فهل هذه مصادفة؟ وهل هي مصادفة أيضا ً أن يكون الحديد ـ وهو المعدن الأكثر أكسدة بأملاحه الحمراء ـ هو ما يستعمله الجسم من أجل الهدم الاستقلابي أيضا؟".

تكمن عظمة الدم بلونه الأحمر العائد لعنصر الحديد في الحفاظ على وسط داخلي ثابت الحرارة في جسم الإنسان، وهذا ما يعطيه حياة حرة نشطة مستقلة، بينما تكون الحيوانات ذات الدم البارد (أحيانا لا لون له وأحيانا أزرق) ذات حرية أقل بكثير، فمجرد مرور غيمة مانعة لأشعة الشمس من الوصول للحشرة قد يكفي لشل حركتها، كذلك يشكل الشتاء فترة طويلة من حياة بليدة كامنة(بيات شتوي). والحيوانات الأخرى ذات الدم الأزرق بسبب ذرات النحاس عوضا عن الحديد في خضاب الدم، تكون عندها فقط العضلات محتوية على الهيموجلوبين أو الخضاب، لأنها الأعضاء ذات الأكسدة الأكبر والأكثر إطلاقا للحرارة.

وقديما كان علاج فقر الدم في الإنسان يعتمد علي مفهوم التشابه: "لصدأ الحديد لون أحمر مثل لون الدم لذا فالحديد يكون مفيدا في علاج فقر الدم (الأنيميا)".

فقر الدم (الأنيميا):

من المعلوم أن مستوي الهيموجلوبين عند الطفل الوليد 20جم/ 100سم ، وخلال عشرة ايام تتحلل معظم الخلايا الحمراء وينخفض المستوي الي 12 جم بنهاية السنة الأولى، ثم يرتفع تدريحيا مع سن البلوغ. وتبلغ كمية الحديد المخزونة في جسم الشخص الطبيعي 3-5 جم.  ويتم فقد الحديد عن طريق الفضلات (البول والبراز والعرق)، فيفقد الجسم كميات قليلة منه يوميا (1ملغ) عند الذكور، وتزداد إلي 2 ملغ عند الإناث قبل انقطاع الدورة الشهرية نتيجة لفقد دم الطمث الشهري. ويوميا يحتاج الشخص البالغ حوالي  15- 20ملليغرام. وتزداد احتياجات الجسم من الحديد بمقدار 2 ملغ/ يوميا عند الحوامل (حوالي 20% من وفيات النساء أثناء الولادة يعود لفقر الدم)، و 0.5 م ملغ أثناء الرضاعة، ومثلها عند الأطفال في فترة نموهم. وعند حدوث وفرة من الحديد زائدة عن التصنيع الجديد يتم تخزينها في مخازن للحديد بالجسم علي هيئة " فيرتين"Ferritin، وهو حديد قابل للذوبان وللاستعمال، او يتم تخزينه علي هيئة " هيموسيدرين"Haemosidrine، وهو اغلب الحديد المختزن، وهو اكثر ثباتا ولكنه غير قابل للاستعمال الفوري.

الأنيميا/ فقر الدم  Anaemia ليست حالة مرضية واحدة ولكنها تتشكل من مجموعة متعددة العلل يجمعها عامل مشترك هو وجود نقص ملحوظ في كمية الهيموجلوبين في الدم Haemoglobin Blood، كما أنه يصاحب ذلك النقص في معدل الهيموجلوبين خصائص مرضية في كريات الدم الحمراء.

أسباب/أنواع الأنيميا:

ـ الأنيميا النزفية/ النزيفية Haemorrhagic anaemia النزف الحاد أو المتقطع مع تكراره يسبب فقدان للدم من عدة طرق: الإصابات والحوادث المؤدية لنزيف ـ نزيف من الحبل السري لدي الوليد ـ غزارة الطمث ـ نزيف في عملية الولادة ـ البواسير ـ قروح المعدة وأثني عشر والأمعاء ـ دوالي المريء في مرض تليف الكبد ـ العمليات الجراحية، فتنقص كريات الدم الحمراء ومعدل الهيموجلوبين، والنزيف المتكرر قد يسبب فقدا شيدا في الدم لدرجة ان نخاع العظام Bone marrow ـ ولنقص الحديد الشديد ـ يصبح عاجزا عن صنع كريات دموية جديدة، فتحدث الأنيميا.

ـ انيميا تكسير الدم Haemolytic anaemias  يتحطم جزء من كرات الدم أثناء دورانها في الجسم كما الحال مع مرض اليرقان العائلي، ومضاعفات الملاريا(حمي البول الأسود)، والذي يغزو طفيله كريات الدم الحمراء فيحطمها.

ـ كلا السببين/ النوعين السابقين معا مثل حالات الإصابة بالطفيليات كالبلهارسيا والأنكلستوما.

ـ أنواع الأنيميا الناتجة عن العجز في تكوين الدمDyshaeompoetic anaemias  نقص الصناعة في النخاع العظمي: يحدث عندما يكون نخاع العظام عاجزا عن أحلال كريات جديدة بدلا من القديمة التي يتم التخلص منها عبر الطحال Spleen ، وذلك بسبب العجز عن الوفاء بالضروري من الحديد(قلة الكمية المأكولة)، ونقص فيتامين ب12، وقلة إفراز المعدة الحمضي (يساعد علي حفظ مركبات الحديد بحالة يمكن امتصاصها في الجهاز الهضمي)، وإضرابات الأمعاء المصحوبة بإسهال مزمن يقلل من امتصاص الحديد، فضلا عن حالات ضمور/ أمراض النخاع العظمي.

ويعتبر فقر الدم الغذائي من أكثر أمراض الدم شيوعا، وهي تعني حالة مرضية حيث ينخفض فيها تركيز الهيموجلوبين في خلايا الدم الحمراء عن الحد الطبيعي للسن والجنس (والمعدل الطبيعي للهيموجلوبين من 13-18 جم لكل 100سم دم للذكر البالغ وتقبل النسبة قليلا في الأنثى البالغة(الحد الأدنى الطبيعي للهيموجلوبين فوجد انه 12.5جم للذكر البالغ، و11.5 للأنثي البالغة، والانخفاض عن ذلك يعد حالة من الأنيميا).

ومن عوامل نقص كمية الحديد المأكولة: إضافة الملح إلى اللحم قبل شيه، فالملح يعمل على امتصاص الماء من اللحم وهذا يقود إلى استنزاف المعادن والفيتامينات الموجودة فيه خصوصاً الحديد، لذا يجب أن يشوى اللحم أولا ثم بعد ذلك يضاف إليه الملح.

ومن العادات الغذائية الخاطئة شرب الشاي بعد الوجبات مباشرة مما يؤدي على حصول الجسم على كميات كبيرة من حمض التنيك Tanic acidالذي يرتبط مع الحديد وفيتامين ب12، مما يؤدي إلى نقصهما وبالتالي إلى أنيميا.كوب واحد من الشاي يقلل كمية الحديد الممتص إلي الثلثين، كذلك تقلل القهوة من امتصاص الحديد بنسبة قد تصل إلي 40%، لذا يجب تجنب الشاي والمشروبات الغازية والقهوة بعد الوجبات الغنية بالحديد مباشرة، بل يمكن تناولهما بعد مرور ساعتين علي الأقل من تناول الوجبات. كذلك المواد التي تقلل من امتصاص الحديد: أملاح الفوسفات و EDTA  التي تتوافر في المشروبات الغازية. كما إن الحديد في البيض قليل الامتصاص في الأمعاء وذلك لوجود الفوسفات في صفار البيض.

مع إن الألياف ضرورية لتنظيم الهضم وعمل القولون ويجب تناولها يوميا ومن المفيد ان يتناول الإنسان الحبوب في الإفطار ولكن غالبية الحبوب تحتوي عل مواد تسمي phytates تمنع امتصاص الحديد، لذا فيجب عدم تناول المواد الغنية بالحديد علي الإفطار، او يمكن أكل جبنة قريش أو بيض بجوار الفول المدمس حتى يتم الاستفادة من الحديد الموجود فيه. كما أن النمو السريع لدي المراهقين، والتدريبات الرياضية الشاقة وفقد الحديد عبر العرق يؤثر علي فقد كميته من الجسم مما يستلزم مصادر اكثر اغني في أطعمتهم.

ومصادر الحديد الغذائية ومنها مصادر حيوانية واخري نباتية مثل: الكبدة والطحال ـ اللحوم ـ الجمبري ـ صفار البيض ـ والعسل الأسود ـ قصب السكر وعصيره ـ والمشمش ـ الموزـ التفاح والعنب والرمان

الفول والعدس ـ والخضراوت ذات الأوراق الخضراء الداكنة. (لايوجد حديد في الباذنجان عكس ما هو شائع).

ويوجد مصدر آخر للحصول علي الحديد غير الغذاء، من الحديد الناتج من عملية الإحلال والتجديد في الخلايا الحمراء بعد انتهاء عمرها الافتراضي (60- 120 يوما)، يتغير دم الإنسان كل ثلاثة اشهر،  فيعاد " تصنيع الحديد الناتج من تكسير هذه الخلايا الهرمة إلي كرات حمراء جديدة، ويشارك في تصنيع كرات الدم الحمراء أيضا فيتامين ب12، وحامض الفوليك وهرمون الغدة الدرقية والأندروجين الذكري وفيتامين C، و فيتامين E، ومن عناصر النحاس والمنجنيز والزنك وهرمون الإرثروبيوتين.

ولكي يمتص الحديد في الجسم يحتاج لتوافر أربع عناصر: فيتامينات ج (فيتامين C مثل عصير الليمون) يساعد علي امتصاص الحديد بصورة افضل من عدم وجوده(، وفيتامين د ، ب12، وحامض الفوليك. ويوجد الحديد في الطعام علي شكل غير قابل للامتصاص وتساعد حموضة المعدة علي تحويله لمادة قابلة للامتصاص من الجسم، كما يتحكم في امتصاصه خلايا الأمعاء، وهو يحمل أليها محمولا علي بروتين " الترانسفيرين"، وإذا كانت كمية الحديد بالجسم وداخل خلايا الأمعاء كافية فلا يتم امتصاص المزيد بل يتركه الجسم يخرج مع الفضلات. ولكن اذا نقصت كميته  أو ازدادت احتياجات الجسم له( فترات النمو لدي الأطفال أو اثناء الحمل، أو في حالات فقر الدم وغيرها) فإن الامتصاص يزداد من الخلايا ليعبر الدم محمولا علي الترانسفيرين إلي النخاع العظمي لكي يتم تصنيع الهيموجلوبين اللازم.

أعراض الأنيميا:

تتباين الأعراض مع معدل انخفاض الهيموجلوبين ودرجة حدوثه الحادة أو التدريجية، لكن علي الإجمال فإن نقص قدرة الدم علي حمل الأكسجين يقلل وظائف الجسم الحيوية العامة فيشعر المصاب بالتعب لدني مجهود، والإرهاق، والشكوى من الصداع وطنين بالأذن، وضيق التنفس مع أي مجهود، ومع الحالات الشديدة يحدث سرعة النبض وخفقان بالقلب، مع اضطراب حاسة التذوق( وخاصة لدي الأطفال Pica فيقدمون علي تناول أشياء غير معتادة مثل التراب والفحم)، ضعف الشهية للطعام ، وشحوب الوجه والجلد. في الحالات المزمنة التهاب واحمرار الغشاء المخاطي للسان فيصبح املسا، وحدوث التهابات في زوايا الفم، واضمحلال الغشاء المخاطي للبلعوم فيتعذر البلع أحيانا مع اضطرابات هضمية، كما قد يحدث تكسر في الأظافر.

التشخيص: صورة الدم هي المؤشر الأول حيث أن الخلايا الحمراء بها كميات قليلة من الهيموجلوبين، أو هي خالية منه، واصغر حجما. ويمكن أيضا قياس الفيرتين (النسبة الطبيعية في الدم لا تقل عن 15 ميكروغرام لكل 100سم دم).

ما سبل العلاج والوقاية:

- إيقاف مسببات فقد الدم وعلاج الأنزفة والطفيليات.

- إمداد الجسم بالعناصر المهمة للدم من مركبات الحديد والفيتامينات (الكبد)، تناول اللحوم الحمراء والأسماك والطيور، والكبد غني بالحديد و ب12، مصادر لفيتامين C مع الحديد فيساعد علي امتصاصه. تجبب ما يقلل من امتصاصه مثل الشاي والقهوة والمشروبات الغازية والحبوب وألياف فلا يتم تناولها مع وجبات الغنية بالحدي بل في أوقات أخرى. إضافة الحديد وحمض الفوليك إلي دقيق الخبز في معظم البلدان الفقيرة.

- دوائيا في صورة شراب أو أقراص وفي بعض الحالات حقنا، في الحالات الشديدة يجري نقل دم.

جملة القول: الحديد هو أحد المعادن الأساسية في جسم الإنسان، وهو أساس تركيب الهيموجلوبين الذي يحمل الأكسجين لتروية أنسجة الجسم وأجهزته. ولا يمكن لإنسان أن يعيش بلا أكسجين، ولا يمكن تكوين الهيموجلوبين بدون الحديد. وإذا كان الذهب هو عماد السياسات والماليات، وفإن الحديد فضلا عن كونه عماد الصناعت الثقيلة، فإنه عماد صحة الإنسان، الذي هو محور هذه وتلك. ويبقي  الحديد أغلي من الذهب.

بقلم: أ.د./ ناصر أحمد سنه .. كاتب وأكاديمي من مصر.

جريدة الدستور

JoomShaper