ربما تشكل التغيرات النفسية والسلوكية المرافقة للحمل وما بعده ,عنوانا صعبا في البحث والتحليل,ولا ادل على ذلك من اكتئاب بعد الولادة فهو لا يختلف بأعراضه عن الاكتئاب بأي مرحلة حياتية ,باستثناء ارتباطه المؤقت بالولادة ,لتكون تلك علامة مميزة ينبغي ايلاءها الرعاية والاهتمام .
د. كميل موسى فرام*
رحلة الحمل بعد الزواج واحدة من المحطات الحياتية الصعبة لقطبي العائلة باعتبارها نتيجة بديهية للتوافق والانسجام بين الزوجين، بل وأحد صور الاتحاد النصفية للتطابق والتكامل، فتتكرر أحداثها مرات متعددة بالرغم أن ثمارها تحتاج للتضحية والحرص والرعاية المستمرة بعالم متقلب، براكينه مؤثرة ومؤذية أحياناً، والحمل كمرحلة حياتية يساهم بتغيرات فسيولوجية تحتاج لرعاية مشتركة تعتمد بأهدافها بالمحافظة على الأم والجنين، ليكون موعد وصول القارب بمحطته الأخيرة عرسا عائليا يمطر سعادة وفرحا ويستحق الاحتفال به إعلانا لانضمام فرد جديد بشجرة العائلة.
فالرحلة بعمومها صعبة وحساسة، تحتاج لجهود متواصلة منذ انطلاقها ويمنع الإهمال فيها تحت أي مبرر، خصوصا أن عواصفها لا تحترم الزمن، بواقع يلزم الزوجين بارتداء حزام الأمان حيطة وتحسبا، مع اليقين أن هذا الواقع يفرض معطيات وسلوكيات جديدة بقدر من الحذر والحرمان ويلزم الزوجين بإعادة ترتيب أولويات حياتهم، لأن الضيف القابع برحم أمه لن يصرخ بهذه المرحلة ولكن خطيئة التساهل بحقوقه ستكون ضريبة مؤلمة بالقادم من الأيام.

تقلب مزاج الحامل
ربما تشكل التغيرات النفسية والسلوكية المرافقة للحمل عنوان صعبا بالبحث والتحليل، تدخل السيدة بأتون الخوف بعيدا عن معطيات الواقع، فتُقزّم الأحلام بسراب صحراوي وكثبان أعمى، يحرم الطرفين من لحظات الاسترخاء بالرغم أنه يفتقر لمفردات الشكوى أو التشخيص، لتجعل من سلاح الصبر والزمن أملا بكفالة القفز عن هواجس المجهول، خصوصا أن هذه التغيرات تشكل بدرجاتها الأولى عتبة من عتبات الحمل نتيجة لخلل المعادلة الهرمونية بالميل نحو الواقع الجديد، وربما تفسر أحيانا بأنها ترجمة لواقع عائلي يعالج بالكتمان أو استخدام العقاقير العلاجية التي تفرز السحر بالابتعاد المؤقت عن غيوم الواقع، خصوصا لتلك الفئة من النساء التي ترزح تحت مفاصل التهديد العائلي لأسباب متعددة أو تلك الفئة النرجسية التي تعتبر أن فصول الحمل تحرمها من طقوس شخصية فتقيد حريتها، خصوصا أن تغير الشكل والرشاقة وانعدام سحر الجذب المرحلي والخوف من فصول الولادة والألم، وغيرها ستبني جدارا يحرمها من الواقع، فتترصد مفاتن الخوف بقالب ينفجر باضطراب المزاج بعد الولادة مباشرة.
السلوك المزاجي بنفقه السلبي قد يكون نتيجة مترجمة لترسبات ذهنية تمجد فصولها بحدث الحمل أو ربما تترجم سيالاتها العصبية بفعل السحر لارتفاع هرموني الكورتيزون والاستروجين، فيصبح المزاج متقلبا بدرجة حساسة تتطلب الحذر بالتعامل والعلاج للمحافظة على سلامة المعطيات، وبالتحديد بالفترة المباشرة لحدث الولادة الذي يشكل بركانا مدمرا يترجم بأحد صورة بأشكال الابتعاد عن الطفل الجديد والتجديف بشراع الموت الذي يداعب العواطف المضطربة، ويتمثل هذا التطور المؤسف بأشكال متعددة تبدأ بالبكاء المحزن المصحوب بالقلق والتهيج، أو عصف الذهان بعد الولادة بأحد صور الاضطراب النفسي الشديد والذي يتميز بأفكار غير منطقية وردود فعل غير طبيعية باتجاه المولود فتتبدل الأحداث بصورة جذرية ويفرش الحزن وسادته بدلاً من الفرح، بالإضافة لأعراض مرضية بدرجة حادة تتداخل حدودها وتضاريسها كالقلق والتهيج والأرق وسلبية المزاج.

مشاعر الخوف من الطفل القادم او عليه
الاكتئاب بعد الولادة لا يختلف بأعراضه عن الاكتئاب بأي مرحلة حياتية باستثناء ارتباطه المؤقت بالولادة لتكون تلك علامة مميزة، بالرغم من مفاجأة توقيت الترجمة السلوكية بعد الولادة مباشرة، ويضاعف حجم تأثيرها لطبيعة وحساسية فترة النفاس لتداخل ظروفها الفسيولوجية  خصوصا أن مبرر الاكتئاب بظاهرة أو أبسط صور تفسيره تخلص بنتيجة وازع فكري خوفا من الطفل القادم أو عليه، والأمثلة تفتقر لربط ذلك بجنس الجنين كمبرر للتصرف، ليجعل ترجمة السلوك مرتبطة بخيط من السحر تفرض احتراما مغلفا بعواطف حديثة الولادة كنوع من العلاج، ويمكننا طرح أسهم الشك بحقيقة ظهور أعراض الاضطرابات المزاجية والسلوكية كامتداد لبوادر سلوكية سلبية سابقة والتي تستدعي التفريق بينها وتلك السلوكيات الناتجة من حدث الولادة كقدوم جنين يحمل جنسا بعكس الطموح العائلي، أو الانحراف بمنعطف الولادة عن خطوط السياسة العائلية والتي تحكم بقبضتها أي من الحموات، أو الاختلاف على اسم المولود القادم ومهما كان مبرره، أو الاختلاف على طريقة الولادة التي تنتهي بانتصار أحد الطرفين وغير تلك من الأمور المماثلة والتي تفرز غيوما ضبابية بالجو العائلي فتقزّم الفرحة بالمولود الجديد بجو عائلي يمنع الانفراج بزاوية السعادة بالقدر المستحق، وأحد صور نتيجته شبه الحتمية تعرّض السيدة الوالدة حديثا لاضطراب وكآبة غير مبررين على الإطلاق، فيتم الخلط بالتفسير عن كونها وليدة الساعة أو أنها قد نضجت بهذه الفترة، وللأمانة العلمية أذكر نسبة حدوث تغيرات سلبية بالسلوك و/أو المزاج بعد الولادة قد تصل لحوالي 10-15%، بينما تبلغ نسبة الذهان لرقم ضعيف لا يتعدى العُشْرُ بالمائة (0،1%).

قلق الحوامل مبرر وان تعددت الأسباب
غالباً ما تكون أسباب التغير المزاجي والسلوكي أثناء الحمل كنتيجة لأسباب ممتدة قبل تلك الفترة الحرجة ولكنها تترجم بشهور الحمل، وربما يكون ذلك كخطوة ذكية تستغل فيها المرأة أغادير الحنان والعواطف عند الرجل والعائلة باعتبارها قلب الحدث العائلي للشهور القادمة، ولكن الحقائق المقنعة تشتمل سيلا من الهواجس التي لا تذكر ولكنها تشكل مصدرا للتوتر والضغط النفسي بدرجة تتعدى حدود السيطرة والتحمل، مثل القلق على الميزانية العائلية ببند لم يسطر على أجندة الإعداد، وبذلك يكون هناك سبب لخلط الأوراق الشخصية والعائلية لدى الأشخاص أصحاب البنية النفسية المقهورة، فيكون الحمل بتغيراته الفسيولوجية شرارة الترجمة لانفجار قنبلة السلوك والعواطف وبعيدا عن السيطرة والإحكام الفكري ليتهم الحمل وفصوله اللاحقة بالمسبب وهي بريئة من ذلك.
لم تفسر التغيرات النفسية والسلوكية المرافقة للحمل والولادة بدقة بسبب طبيعة الأعراض، فالاكتئاب والهذيان والذهان وزرقة الطفل وغيرها تمثل تداخلا بكل فواصلها وتعتمد على الاجتهاد بالتشخيص بل وتحتاج لحنكة الطبيب المعالج لامتصاص واحتواء التذبذبات الشخصية والسلوكية بالقدر الذين يبسط الشكوى لدرجة الضمور على أن تحترم جميع المفردات المتعلقة بالأمر وتعامل بدرجة الجدية والخصوصية وبعيدا عن أسلوب التهديد أو لأن ذلك سيؤدي لتفاقم الأمر ويدوّل الأمر على المستوى العائلي والمحيط.
استخدام العقاقير العلاجية أثناء الحمل وبفترة الرضاعة يمثل خيارا قائما طول الوقت، وخطوط العلاج لا تختلف عن تلك المستخدمة بالمراحل الحياتية الأخرى كمبرر، ولكن هناك تحذيرات صحية من الآثار الجانبية لتلك الأدوية وخصوصا المستخدمة ضد الاكتئاب أثناء الحمل لحقيقة تمتعها بخاصية سهولة الانتقال عبر الخلاصة للجنين، حقيقة محيرة تستوجب التذكر بإمكانية تسببها لحدوث تشوهات خلقية.

العلاج لايستخدم في صورة الفزعة
ولكن القواعد الطبية بأخلاقياتها تعتبر السلامة الصحية للسيدة أولوية طول الوقت، حيث تحضر حِكمة الموازنة بين الشقين على أن لا يمارس ضغط التهديد على السيدة لعواقب العلاج، فتضاريسها الداخلية لا تحتمل مزيدا من الاضطراب وهي بحاجة فورية لارتداء ثوب الأمان والاستقرار حتى لا يكون الانهيار نتيجة تدمع الجميع، ويحذر هنا من استخدام العلاج بشكل الفزعة أو اللجوء للعلاجات الهرمونية بسحرها لحقيقة انعدام الفائدة على الأقل.
الاكتئاب بعد الولادة سيترك آثارا تترجم بشقها السلبي على علاقة الطفل القادم بوالدته، خصوصا إذا جانب التفكير لمسة شاذة بشكوك المستقبل ليحرم الطفل من حنان والدته، حتى لو كانت تلك الأمور لفترة زمنية عارضة، حيث أن التدخل المناسب لأصحاب الاختصاص سيكون صمام الأمان لضبط الأحوال بقالبها الصحيح حتى لو تطلب الأمل لنزهة زوجية بالقارب الثنائي أو رحلة استجمام بيخت الأمل، فحياتنا بعمومها رحلة تستوجب الاستمتاع بكل لحظاتها، فمن يبحث عن مشاريع النكد وكنوز الحقد يحتاج لمصحة عزل حتى لا يكون وباءً على أزهار البستان الحياتي، ومن يتذكر حكمة الفراشة والزهر بألوانه سيدرك أن السعادة ملكا لمن يبحث عنها ويقدرها وللحديث بقية.

*أستاذ مشارك/ كلية الطب- الجامعة الأردنية
استشاري النسائية والتوليد/ مستشفى الجامعة الأردنية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
www.kamilfram.com

JoomShaper