د. كميل موسى فرام -
الصفحة الصحية في واقعنا تحتل موقعا متوسطا ضمن أبجديات التخطيط التي نسلكها، أو نعيد ترتيب أحداثها بالقدر الذي يجعل مقاصة النتائج لا تتفق أبدا مع الطموح، فربما تكون محور الاهتمام لظروف فنجدها تقفز للمقدمة وتسخر لها جميع الإمكانات التي يمكننا حشدها عندما نشعر أن رياح الحرمان قد تمطر بصيف صحي ، وتعصف بأمنيات كانت بمتناول اليد خصوصا أن الفقرة الصحية بقدر أهميتها فإنها بصفحة الاعتقاد بأنها مسؤولية الدولة وليست الأفراد خصوصا بين الطبقة الميسورة.
والمؤسف بتلك الفكرة الغابرة أنها جزء من الأموال المنقولة التي توزع بالإرث فيصعب العبث بمحتوياتها احتراما أو جهلا ولا فرق لأن نتيجتها السلبية تحجب شمس المستقبل - بدون خطيئة - عن فئة اجتماعية كان حالها سيكون أفضل لو قدر لها التشخيص والعلاج بالتوقيت المناسب.
الحلم بطفل سليم
ينحصر تشخيص الأمراض التي تصيب الأطفال خصوصا الأمراض الوراثية والخلقية بصورة مطلقة بالوالدين، ولا يوجد مبرر يتيم يضمن براءة الأهل من العناية بأبنائهم بتواجد المراكز الصحية والعلاجية وانتشارها على رقعة الوطن، فتوظيف المبتكرات الطبية، والاكتشافات العلمية يشكل السلوك الصحيح للفكر والعناية، وبغير ذلك فإن البحث عن الأسباب الواهية والركيكة يمثل مخدرا فكريا للسلوك وسجنا للحرمان من رؤية ابتسامة السعادة على الأبناء، فمعظم الولادات اليوم تتم بمستشفيات متخصصة ، وبإشراف طبي يضمن الابتعاد عن العديد من المضاعفات المعروفة بمتحف التاريخ، فحلم الوالدين والعائلة والمجتمع بطفل سليم قد أصبح واقعا نحياه ونملك مفرداته ويجب أن نجتهد ونجهد لترسيخ جذوره.
الفحص الكامل للولد
الخطوة المباشرة بعد صرخة الولادة الأولى والاطمئنان على سلامة الجهاز التنفسي والدوراني، تمثل الفحص الدقيق لجميع أعضاء الطفل بطريقة مبرمجة تبدأ بفتحة الرأس والعينين وتنتهي بأخمص القدمين، مرورا بمنطقة الجهاز التناسلي لوحدة ربانية مع الجهاز البولي بكلا الجنسين، فالولد يحتاج لفحص دقيق للاطمئنان على فتحته البولية وتواجد الخصيتين بكيس الصفن بملمس وحجم يتفق مع الشكل والوزن والعمر التقديري عند الولادة، بمنطق بديهي مع تناسق الأجهزة المختلفة، فتشخيص خصية هاجرة مثلا أو تواجد الفتحة البولية بغير جغرافيتها الفسيولوجية يفرض شكلا من أشكال البحث الطبي عن الشفاء تماما كحال وجود كيس مائي على الخصيتين أو بالمنطقة البولية والتناسلية.
كما لا بد من ملاحظة انسياب البول والبراز بشكلهما المألوف وقبل إصدار الحكم الطبيعي، بالرغم من ضحالة عدد الحالات التي نواجهها، ونذكّر أن التشخيص والعلاج بمرحلة الطفولة يعفي الطفل من صدمات وارتدادات نفسية عندما يبلغ ويدرك الواقع.
الفحص الكامل للبنت
الحال عند الطفلة البنت قد يكون بدرجة أصعب أو أكثر حساسية، فالربط بين الشكل الظاهري والمألوف يمثل أبجدية التهجئة للحكم الأولي، والتدقيق بمكونات منطقة العجان والمهبل يحتل أولوية يصعب تجاوزها خصوصا بوجود مؤشرات لخلل تكويني، فتحسس منطقة التقاء الحوض مع عظمة الفخذ والنظر بعين فاحصة لتأكيد وجود غشاء البكارة بشكله الصحيح وفتحته بالتحديد يضمن درجة الأنوثة التي نتمناها لملاكنا الصغير في مستقبله، فهذه الخطوة تمثل واحدة من سلسلة التطبيق الفعلي للعناية بمستقبل الطفلة، حيث أن سنوات العمر التي تتبع تكون زاخرة بأحداث التطور والتكوين بالتوافق مع مؤشرات الجذب والرشاقة لترجمة مفاصل الجمال التي نتمناها، حتى إذا بلغت الفتاة ربيعها العاشر، تشع بقدر وفير من سيالات الجاذبية والأنوثة بأحرفها التي تترتب لتنطق، فتترجم الأحداث بالدورة الشهرية إعلانا لاكتمال البنيان وشهادة للمستقبل تؤهلها لرعاية عائلة بظروف مناسبة نتمناها.
الإهمال بالجانب الصحي
المؤسف بواقعنا الاجتماعي احتلال الإهمال بالجانب الصحي لجزء يسير من وقت البعض وأجندته واعتماد مبدأ التأجيل لاستهلاك رصيد الأمل، وربما نستميح العذر أحيانا بفقرات صحية لا تحتل صفحات حياتية مهمة، ولكن التطبيق الفعلي لـتأخر الدورة الشهرية على الفتاة عن العمر المتوقع بدون الاطمئنان على سلامة الواقع التشريحي والفسيولوجي ، فذلك يمثل شكلا مهما من أشكال الفقر الفكري وصورة لبخل التفكير بل يتعدى حدود الاعتداء المبرمج على المستقبل ويرقى لدرجة الجريمة، فالذهاب للطبيب بالتوقيت المناسب يشكل محجا عمريا يحمي من غدر الزمن.
فلا يعقل أبدا أننا نعيش اليوم بعالم قد أصبح قرية صغيرة بالتقدم الهائل الذي مكننا من تحجيم وتحديد حدوده وأبعاده، ونشخص بين فترة وأخرى فتاة تعاني من عيب جيني تكويني يحرمها من صورة الأنوثة الكاملة التي تحلم فيها أي فتاة، بالرغم من أن هناك عيوبا خـَلقية نتيجة خلل في بترجمة الشيفرة الوراثية جعلت العلم عاجزا عن التدخل، ولكن التشخيص المبكر لهذه الحالات يساهم بتطبيق حلول منطقية بزمن عمري يشفع بتجنب المعاناة على مستوى الفتاة وأسرتها في المستقبل، ناهيك عن أن هناك قائمة من الأمراض الوراثية التي يمكن تشخيصها أثناء فترة الحمل ليدق جرس الإنذار قبل الولادة.
خلل تكويني
الشكل الخارجي والمظهر لا يمثلان صك الأنوثة الصحيحة كما يعتقد البعض، فأجمل الفتيات مثلا بجاذبية السحر ومفاتن الجمال تمتلكها فتيات قد ثبت بعد تحليل تركيبتها الجينية بامتلاكها لعدد زوجي من الكروموسومات ، ولكن المسؤول الذي يحدد المصير الجنسي يتكون من تركيب ذكري، وبسبب خلل تكويني فإن هناك خصيتين تفرزان هرمون الذكورة «التوستيرون»، ولكن المستقبلات الهرمونية المنتشرة بالجسم تستجيب لهذا الهرمون بشكل يعاكس الواقع، أي تتعامل معه كأنه هرمون السحر والجمال الأنثوي «الاستروجين».
واقع يجعل الشكل الخارجي الذي يمثل منطوق الحكم يتمتع بكل الصفات الأنثوية المثالية، ولكن البيئة الداخلية هي بيئة ذكرية تفتقر للرحم والمبيضين، حتى إذا توفرت الفرصة لفحص الفتاة بمنطقة المهبل، ليعزز التشخيص بوجود بقايا قضيب ذكري قزم منقرض، وانعدام غشاء البكارة أو حتى صورة منطقة العجان المألوفة، حقيقة تصدم ويصعب العبث بتضاريسها، تتنافى مع سلوكيات الفرد وأحلامه لأنها ستنقله من عضوية الجنس اللطيف بصورة قصرية بدون ضمانات مستقبلية، على أن يؤسس النقل ابتداء بالتخطيط لعملية جراحية لاستئصال الخصيتين وقبل أن تتحولا لبؤرة خلل صحية.
تلافي الوقوع بالخطأ بجهد قليل
هذا أنموذج واحد من سلسلة العيوب الخلقية التي تحتاج منا للتعاون المبكر معه وقبل استفحال مضاعفاته خصوصا بالجانب السلوكي والنفسي بمجتمعنا الذي لا يرحم ، وبين الأصدقاء والأقارب الذين يمطرون الأهل بغيمة بردية من النصائح المغلفة بالحزن فرحا داخليا نتيجة الحسد الذي يغذي جزءا من الأحلام، وعلينا أن نتخيل كيف لنا أن نخبر فتاة بقمة فورتها الأنثوية بأنها تمتلك خارطة جينية ذكرية، أو أنها لا تصلح للزواج كأنثى إلا لمنطق التسليك بأمل الغد المبهم لشخص أرمل أو اقتنع بمقدراته؟
واقع محزن مبك ٍ، كان بالإمكان تلافيه بقليل من الجهد، فالدمعة لن تمسح الخطيئة والاعتراف بالخطأ لن يغمد بركان العمر للجريمة والصحو المتأخر قد يثير أزمات عائلية بزواج المثلين بدون أن ندرك وللحديث بقية!
خــــبــــــــــــرات
يمثل الخلط بين الطموح والواقع ومضة سحرية يصعب تحليل أركانها، بل يستحيل فهم شيفرتها فمجتمعنا يميل للشق الذكوري بصورة مؤسفة حتى لو تطلب الأمر تغطية شمس الواقع بغربال، كما أن الجهل بمعلقات المستقبل ما زال فطراً ينخر بلب شجرة العطاء العائلي، وكأن التغاضي عن الاعتراف كفيل بالبراءة، أمر يحزن ويبكي ويحتاج لوقفة طويلة وسلسلة من حلقات الإرشاد، قبل أن تصبح لغة الثأر حاضرة للسداد.
أستاذ مشارك/ كلية الطب- الجامعة الأردنية
استشاري النسائية والتوليد/ مستشفى الجامعة الأردنية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
التشخيص المبكر يرسم طريق الشفاء
- التفاصيل