الرابطة الأهلية لنساء سورية
يبدو أن مفهوم (السلم الاجتماعي) غائم أو عائم في أذهان الكثيرين. هو عائم بالتأكيد في أذهان أهل السياسة، لأنهم مهتمون أصلاً بما يدعونه (السلم) السياسي في الداخل والخارج. فالسلم مع الخارج هو سلم مع دول الجوار في الإقليم والسلم مع دول العالم، في عصر أصبحت فيه الحروب تدار، ولو لم تزحف الجيوش. ثم يتفرع الحديث عن حرب ساخنة هي المقصودة غالباً بالمصطلح، أو حرب باردة، سياسية أو ثقافية أو اقتصادية. وسلم سياسي داخلي يتعلق أصلاً باستقرار أوضاع السلطان الداخلي سواء قام هذا الاستقرار على رضى أو على إكراه.
السلم الاجتماعي هو نوع آخر من (السلم)، يشمل الفرد والأسرة والجماعة والمجتمع. ويبقى السلم الاجتماعي بآفاقه هو المؤشر الأول على استقرار الحياة العامة في أحضان الرضا السابغ والسعادة الغامرة، وهو المنطلق اللولوبي الصاعد في تخفف المجتمع من ميت التقاليد، وقدرته على التطوير الإيجابي للكثير من القواعد والمفاهيم.
ونعتقد أن العتبة الأولى للسلم الاجتماعي أن تمتلك النخبة المثقفة من أبناء المجتمع قاموسا مدنيا متحضرا لإدارة حواراتها: تأكيد اتفاقاتها وتضييق أو منهجة خلافاتها. فلا يخدم السلم الاجتماعي أن تكون لغة التنابذ والهمز واللمز والسخرية والتحقير هي اللغة السائدة، بين مثقفين يسعون إلى خدمة هدف أساسي هو تطوير مجتمعاتهم، إلى ما يظنه كل فريق منهم هو الأفضل. إن تسعير نار الحروب الكلامية لن يقود إلا إلى هدر الطاقات، وتضييع الأوقات، واستثارة العداوات، وتحفيز النفوس لرفض دعوة الإصلاح. تكتب إحداهن مثلا، تعليقا على خبر: الشرف الشرقي بأربعة دولارات تقصد شرف مجتمعاتنا بما فيه من جدات وأمهات وبنات!! هل تصنع هذه اللغة سلاما اجتماعيا؟ وأي باب للشر تفتح مثل هذه العبارة؟ وما هو حجم الشريحة المجتمعية المتمسكة بالعفة والطهر التي تسخر منها صاحبة هذه العبارة؟ وهل حقا هي تريد ما يستفاد مباشرة من عبارتها الدعوة إلى ما لا يُرضى وتزيينه وتسهيله؟ وهل تظن أنه من الصعب الرد عليها بعبارات أكثر إيلاما مما يجعلها تتوارى من القوم من سوء ما جرى على لسانها، ولكننا نمسك عن جوابها ترفعا، ولأننا نعتبر أن للسلم الاجتماعي لغته المتمدنة والأنيقة، التي لا يتحقق إلا من خلالها..
وفي أفقه الفردي النفسي يؤكد السلم الاجتماعي على ضرورة الوئام مع الخلق الأولي في صورة ( الذكر والأنثى)، إذ كثيرا ما نجد بعض النساء، غاضبات أو ناقمات على أنهن خلقن في صورة (الأنثى). وبعض الرجال يظنون أنه من فضل الله عليهم أن خلقهم (ذكوراً) فجعلهم في وضع المتفوق الأصلي أو المتفوق بالفطرة كما يظنون. حالتان من النقمة والغرور تهددان السلم الاجتماعي أيما تهديد.
حالة نفسية قلقة مدمَرة مدمِرة تحتاج بالتأكيد إلى إعادة تسويتها على أساس الدعوة الواعية إلى بناء السلم الاجتماعي. السلم القائم على الفهم العميق الدقيق. وأول الفهم أن تدرك هذه ويدرك ذاك، أن الذي (خلق الذكر والأنثى) فضل بعضهم على بعض بطريقة من التعبير والتفضيل تجعل أفراد التفضيل وأطرافه متداخلين. (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض)
(الرجال قوامون على النساء بما فضل الله به بعضهم على بعض)
وفي الآيتين يظل الفضل متداول بأطرافه أو بأفراده. و(القوامة) بمفهومها الشرعي لا تعني التفضيل المطلق للرجل، وإنما تعني تفضيلاً في طرف يقتضيها.
حتى الحديث الودود عن (ناقصات العقل) في سياقه الشرعي، والذي يتعلق به البعض، يسير في سياق غير ما يشتهيه من يسيء تفسيره. حين يقرر أن (الناقص) يمتلك القدرة على الذهاب (بالكامل)!! ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم. هل هذه نقطة فضل أو نقطة ضعف حين تمتلك المرأة الضعيفة أو المستضعفة كما يقولون القدرة على الذهاب بلب الرجل الحازم!! أليس من العدل والحكمة، أن ندعوها من موقع قدرتها تلك أن تتقي الله في ذلك المستضعف المسلوب العقل والإرادة معا..
إذاً أول السلم الاجتماعي الرضا عن الكينونة الجنسية. والاعتداد بها. والتوقف عن رؤية النقص فيما خلقن، نحن النساء فيه، ووضع حد لحالة اللهاث للحاق بما يقولون لنا بعقلهم الباطن ولا وعيهم الموروث: إنه الأفضل والأقوى. وأن علينا أن نخلع ثوب أنوثتنا لنلحق به..
وعنوان (بما فضل الله به بعضكم على بعض) يسعنا، ويغطينا في مقامات للفضل تكفينا، وهو عنوان مفتوح مازال قابلاً للمزيد من الشرح والحوار. ويكفي أن المرأة الأم، والأمومة هي الصيرورة الطبيعية لمقام الأنثى، قد أخذت ثلاثة أنصبة من الفضل تتقدم فيها على شقيقها الرجل.
ونعود إلى مفهوم السلم الاجتماعي، لنتحدث عن (السلم مع المنبت و البيئة)...
قصص وأفلام ومسرحيات وقصائد كثيرة، حاولت وماتزال تحاول أن تتصدى للأزمة الحادثة عن الفصام الحاد أو الحرب الساخنة التي يثيرها اجتماعياً المنبت الذي يحاول الإنسان الإنسلاخ منه أو تغييبه أو التنكر له..
الأم التي جاهدت عاملة تنظيف في مستشفى حتى تغطي نفقة دراسة ولدها الذي يجد نفسه بعد جهادها الذي يتقدم على جهاده، مدير المستشفى!!! نظن أن الدراما والمسلسلات العربية لم تقصر في رصد الحالة، وكيف انسلخ أو ينسلخ المنسلخون. والزوجة التي اختطفت الزوج من موقعه العلمي أو الاقتصادي أو الرسمي، وهي تستحي أمام زميلاتها (بنات الأكابر) من لباس أمه (الريفي)..
معارك حامية تدور في نفس الفرد أو في بنية المجتمع تحتاج إلى مزيد من الدراية والإدارة لإخراج أبناء المجتمع وبناته من انعكاسات عقدة النشأة التي تسبب الكثير من أشكال الاحتراب.
والسلم في إطار الأسرة الكبيرة أفق ثالث، ووقف حالة الاحتراب المصطنع بين الرجل والمرأة أو الذكر والأنثى. والتوقف عن استيراد معارك الآخرين إلى عالمنا مطلب أكثر إلحاحا. لقد أصبح مصطلح (ذكوري) سلاحاً شائعا ومشجبا تعلق عليه كل الأمراض الاجتماعية، لا تكادين تستمعين إلى واحدة من نساء (الشمع) على وسيلة من وسائل الإعلام، إلا وتجدينها ترددها بلهفة لترجع إليها علل الأولين والآخرين. وكل واحدة نواجهها بسؤال: هل تقصدين أباك أو أخاك؟. تظهر الضيق والحرج أو تضع يديها بينها وبين المرأة. نقدر أنه أصبح من العيب في نظرتنا إلى التكوين المجتمعي أن نستمر في السير على دروب الآخرين لأن الطاحون التي ستأخذنا إليها هذه الطاحون لا تطحن قمحنا.
نحن مجتمع آخر، ولمجتمعنا مشكلاته. وعلينا أن نحل مشكلات مجتمعنا بمعطيات هذا المجتمع، وليس باستيراد مشكلات الآخرين. وحين نتحدث عن السلم الاجتماعي في الأفق الأسري لا نقصد السلم بين طرفي (عقد) يمكن أن نتحكم به بين زوج وزوجها فقط. وإنما نقصد بالدرجة الأولى السلم بين أطراف علاقة وجودية، لا يمكن لأحد أن يحدد أطراف عقدها تختارين زوجك وتتعاقدين معه وقد تغيرينه مرة أو مرات؛ ولكنك لا تختارين أباك ولا أخاك..
السلم بين البنت وأبيها. بين الأخت وأخيها. بين الأم وبنيها. بين الأب وأبنائه. سلمٌ أصبحنا أشد حاجة إليه على ضوء ما يُدق من طبول الحرب التي تحرض كل صباح هذا على ذاك. سلمٌ بنيناه على حقيقة: الرحم معلقة بين السماء والأرض تقول: اللهم إني أعوذ بك فلا أقطع، وأمك ثم أمك ثم أمك، والجنة عند أقدام الأمهات، وليس على مقررات السيداو، ومواثيق الأمم المتحدة..
إذاً السلم الاجتماعي يبدأ من هناك، من اختيار لغة الحديث أن نتأنق عندما نكتب كما نتأنق عندما نلبس. والبحث عن اللغة الأرفع، والكلمة الألطف، حتى ونحن نقتضي حقاً أو ندافع عن مظلمة فنحن هنا نتحدث عن أب وأخ وزوج عن أسرة وعائلة وعشيرة ومجتمع وشركاء في الوطن. سلمٌ يستحق منا أن نبذل لنصونه المزيد من الجهد، وأن نقدم البدائل الإيجابية ونحن نناضل من أجل وضع العلاقة المجتمعية في الإطار الذي تستحق : السلم والرضا والحب والود والوصل..
ثم للسلم الاجتماعي محضن آخر، ففي مجتمعاتنا التي بُنيت أصلا على أشكال التعددية الدينية والقومية والمذهبية لدينا سلم آخر يجب أن يصان. التربية على قبول الآخر، بدون رضوخ. وتعلم البر إليه مهما كان حجم الاختلاف معه. التربية على أن للجار حق، وللشريك في الوطن حق، وللصاحب بالجنب حق. تعويد أبناء المجتمع على التوقف عن سياسات النبذ والتنابذ. توكيد مفهوم المواطنة الضامن للحقوق المؤكد للواجبات. مصادرة الشعور المرضي بالانتماء الأقلوي الناقم أو الأكثري المستعلي.
السلم الاجتماعي يقتضينا أن ننفي عن حياتنا فيما نسعى إليه كل مدخلات التطرف والإرهاب والقسوة والاستعلاء..
لنعلّم ـ ونحن الأمهات ـ أبناءنا لكي لا يكونوا من أدوات الإرهاب ولا من ضحاياه. حروبنا الاجتماعية يصنعنا أبناء خرجوا من حجورنا، فهل نحن المسئولات؟!