الرابطة الأهلية لنساء سورية

في سياقات دولية وإقليمية تتهدد الأمة وقضاياها المصيرية الكبرى: فلسطين والقدس والأقصى والأوطان المحتلة، والدول المنهكة، ومشروعات التنمية المعطلة، والأطفال والنساء والشيوخ المستباحين بفعل سياسات دولية هوجاء، وشباب تتخطفه دوامات العبث أو التطرف؛ في هذه السياقات العامة الكبرى تثور أو تُثار في أجواء الرأي العام العربي والإسلامي قضايا فرعية فكأنها أولوية الأولويات، وواجب الوقت الذي لا يتقدم عليه واجب!!.
ويذهب السجال الذي يَحمى وطيسه بين مهاجم ومدافع إلى حد أن يرمي الناس بعضهم بالكفر والفسق والانخلاع والتبعية والخيانة والغدر. وفي كل مرة يحمى فيها السجال حول قضية من القضايا، أو موضوع من الموضوعات تذهب الحقيقة التي يدّعيها الجميع ضحية  لهياج المهتاجين وصراخ المتنازعين من الفريقين.
تعلو الأصوات، وتحمر الحدق، وتعرق الجباه، والحقيقة المنشودة قاب قوسي الاتفاق الكلي أو الجزئي بين المتخاصمين فيما لو تحدثوا بهدوء، وحاوروا بمنهج، وإن اختلفت أحيانا المرجعيات.
ضاع أكثر من قرن من عمر أمتنا وأجيالها، وكانت وما زالت ترفض أن يصغي بعضها لبعض. في السياسة كما في الاجتماع والاقتصاد، في الفكر والفلسفة والثقافة، في الأدب والفن، في التاريخ والجغرافيا، في الرياضيات والرياضة، في كل شيء ضوضاء وغوغاء...  ما أن يتحدث متحدث، أو تتكلم متكلمة في أي اتجاه حتى تسبق السهام إلى المتكلم قبل الكلام:  رجعي جمودي منغلق ماضوي أو كافر فاسق مبتدع خائن عميل...
خوف وريبة وتوجس وانعدام ثقة حتى بالذات، إذ ما أروع مصعب بن عمير يعرض أمر الدعوة على قادة الأوس والخزرج: اجلس فاستمع فإن أعجبك أمر، قبلت به؛ وإلا كففنا عنك ما تكره؛ بل ما أروع أولئك السادة يجيبون هذا هو والله النَصَف. نظن أن الذين يرفضون الاستماع للآخرين يخافون على عقولهم بل لا يثقون بها، ونظن الذين يواربون الآخرين يستحيون من أفكارهم بل لا يؤمنون بها.
في الجدل الدائر والمحتدم حول الحجاب والنقاب، بل حول المشروع الإصلاحي الاجتماعي برمته ذهب الغبار منذ مطلع القرن العشرين بالكثير من الخير والكثير من الإيتاء...
لم يُصغ إلا القليلون إلى قاسم أمين عندما كتب كتابه الأول ( تحرير المرأة ). يقال بأن مفتي مصر الشيخ محمد عبدة كان وراء الكتاب. ومن المؤكد أن الشيخ رشيد رضا صاحب تفسير المنار كان من المسارعين إلى شد عضد الرجل مؤيدا لما جاء به. ولكن العاصفة الهوجاء التي استُقبل بها الكاتب والكتاب دفعت قاسم أمين بشدة إلى طرف الدائرة ليطلع على الأمة، على سبيل العناد، بكتابه الثاني المرأة الجديدة فيخلع الربقة وينفلت من العقال...
لم يتريث قاسم أمين بل ربما لم يحسن الدخول وهو بالطبع لم يحسن الخروج. ولكن كان للسجال أو الجدال الساخن حول أطروحاته آثاره السلبية، كما كان لطريقة المعالجة العاصفة أبعادها المدمرة.
قد تعتذرين لمدرسة المحافظين ، بحكم أنهم الكتلة الأثقل والأوسع في المجتمع، وبأنهم بقية التاريخ وإرث الماضي،وبكون جمهورهم أقل حظا من ثقافة العصر، وأضعف إيمانا بضرورة التطور؛ ولكنك ستفاجئين في عالمنا العربي أن دعاة الحرية والانفتاح والتطور هم أضيق صدرا وأوطأ أفقا من الأولين، وأنهم ما أن يحمى السجال ويحتدم الجدال حتى يتجاوزوا كل ما يؤمنون به ويدعون إليه من حرية تفكير وتعبير وسلوك على سبيل النكاية بالآخرين.
خذي هذه الضجة المثارة حول الحجاب والبرقع اليوم... أليس من واجب المدافعين عن المرجعية الغربية أن يقرروا بجلاء ووضوح وبرودة أعصاب أن الأمر يدخل في إطار الحرية الفردية، فإذا كان من حقهم، كما يرون، أن يدافعوا عن حق المرأة في أن تخلع، تحت عنوان الحرية الفردية؛ فإن من واجبهم أن يدافعوا عن حقها في أن تلبس.
وكذا أليس من واجب أصحاب المرجعية الإسلامية أن يضعوا الحجاب في إطاره الشرعي شعبة من شعب الإيمان والإسلام، وشعيرة من شعائر الدين، بدون تكفير ولا تعهير...
ثم لماذا لا يفصح هؤلاء وأولئك من مشروعهم عما يريدون...
هل أتباع المرجعية الغربية سواء فيما يدعون إليه؟!  
إذ لا يخفى أن في أولئك المعجبين بالمرجعية الغربية أقواما يميلون إلى الاقتباس من روحيتها في بناء الشخصية الإنسانية. واعتماد مبدأ الحرية في إطاريها: الفردي والجماعي. ويميلون إلى الحذو حذو الغربيين في المساواة بين الرجل والمرأة. وهم بالتدقيق معهم أو مع بعضهم لا يرون أن نصير إلى ما صار إليه الغرب على طريق تحطيم الأسرة، وترك العنان للحرية غير المسئولة، أو إطلاق السبيل أمام أشكال من الإباحية المطلقة..
ربما مطلوب من دعاة التغريب أن يوضحوا لنا أنهم لا يريدون أن يزوجوا بنا، نحن النساء، تحت رحمة قانون السوق وأن يحولونا إلى سلع وأن يتاجروا بأنوثتنا وأمومتنا تحت عناوين الحرية والمساواة والجنس الاجتماعي...
والمطلوب من أصحاب المرجعية الإسلامية أن يوضحوا إذا  كانوا يريدون أن يعودوا بالمجتمع إلى الماضي، أو إلى التاريخ بظروفه العمرانية والحضارية والثقافية. وأن يعلنوا أنهم يميزون بين صلاحية نصوص الشريعة للزمان والمكان وبين صلاحية زمان ومكان محددين، هما زمان الرسالة الأولى ومكانها، لكل زمان ومكان.
عليهم أن يرسلوا رسائل تطمين حقيقية لشركائهم في المجتمع حول رؤيتهم لما يجب أن تكون عليه طبيعة العلاقات الاجتماعية، وطبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة، وهل مشروعهم قاصر على الزي واللباس وضرب المرأة وتعدد الزوجات، ومقولة : إن دخلت الدار أو خرجت منها فأنت طالق!!! أم أن مشروعهم فيما يدعون إليه هو بناء مجتمع التعاون والتكافل والتناصر ومجتمع الطهر والعفاف والمساواة والعدل والمودة والرحمة بما يناسب روح العصر، ويؤدي حق بناته بنيه.
عليهم أن يبينوا، ونحن أيضا نريد أن نسمع منهم، أن المجتمع الذي ورثناه عن الآباء والأجداد لم يكن هو مجتمع الشريعة كما يجب أن يكون، وأنه قد كان فيه قدر من الاعتساف في تفسير النصوص، وكثير من القصور في تطبيقها.
نقدر أنه عندما يُبيِِن كل فريق عن نفسه بهدوء وروية ووضوح، وبعيداً عن السجال والحمية ولدد الخصومة من الممكن أن تتشكل لدينا قاعدة أوسع من المطالبين بالإصلاح الاجتماعي. قاعدة متينة تلتقي على أمور واضحة مقررة وتتعاون على إنفاذها بدلاً من أن يقذف كل فريق الآخر باتهامات باطلة مما يضيع جهود الفريقين..
حتى عندما يكون هناك خلاف حول أمر ما، من أمور المجتمع أو الأسرة أو الرجل والمرأة أو الطفل فيمكن أن يُحتوى هذا الخلاف في إطاره الحقيقي، كما يمكن الاتفاق على طريقة التعامل معه أو تجاوزه.
اللدد في الخصومة هو الذي دفع البعض إلى الوقوف في وجه قانون الخلع في بعض الأقطار، وهو حق مقرر في حديث واضح صحيح . قال أتردين عليه حديقته؟ قالت وأزيده..
واللدد في الخصومة هو الذي يجعل بعض العلمانيين يتحزبون ضد الحجاب أو النقاب مع أن الحرية الشخصية ومنها حرية اللباس في رأس مطالبهم التي إليها يدعون
تعالين نفكر.. على ماذا نتفق، ثم لننظر هل هناك مهم واقعي نختلف عليه؟! فنضعه في إطاره الذي يستحق..

JoomShaper