الرابطة الأهلية لنساء سورية
واقعنا الإنساني والحضاري بكل أبعاده لا يسر صديقاً. ويبدو أن أبناء أمتنا لا يتفقون على شيء كما يتفقون على إدانة هذا الواقع.
حسب نظرية المؤامرة فإن هناك ميلاً مريحاً عند جماهير شعوبنا لتعليق إثم هذا الواقع في عنق الآخر الاستعمار القديم والجديد، بدوائره ومخططاته وأدواته.
لا نريد أن ندخل في جدل حول هذه الحقيقة. ولكن القابلية للاستعمار هي حالة أخرى قد سبق لكاتب جزائري أن شخصها وأدانها وحمل أصحابها مسئولية ما هم فيه. بمعنى أنه من الطبيعي أن يحاول الآخرون السيطرة، ولكن السؤال: ماذا نفعل نحن..؟
وفي تطور آخر لهذه النظرية، أو في محاولة أخرى لإلقاء العبء عن الكاهل تتم الإشارة إلى الأنظمة السياسية والحكومات. وهذه أيضاً لها دورها في مسيرة الإصلاح والإفساد، ولكن ماذا تفعل الحكومات حين يكون حجم العبء أكبر من الطاقة. وحين يتقارب الحامل والمحمول في الضعف عن الأداء.
يتفق أبناء أمتنا على إدانة الواقع، ولكنهم يختلفون على طريقة الخروج منه، فبعضهم يلح دائماً على تغييب الحاضر تحت غلالة خمرية من رواء الماضي المجيد، ليستغرق جهده ووقته في الدعاوة لهذا الماضي، وتحسينه وتزيينه. يظل يحدثك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والزهراء والخنساء وبنت الأزور والعدوية...
وفريق يرى الناجحين في هذا العالم فيظل يقترح التعلق بأذيالهم، واللحاق بغبارهم، والورود من حيث وردوا للصدور من حيث صدروا؛ معركة قديمة حديثة وكل فريق يشكو من مخالفه، ويحمله مسئولية ما نحن فيه.
وفيما يئن الفرد الأكثر ضعفا والأقل حيلة من واقع قاس لا يرحم، يتراجم أصحاب النظريات بعناوينها، عناوين لا يفقه منها كثيرا حطاب لا يجد من يعينه على امتلاك قبضة الفأس، وصياد ليس له من سبيل إلى امتلاك الشبكة أو السنارة. وامرأة غاب من حياتها حامل الهم والعبء مخلفا وراءه لحما حيا يحتاج إلى الكثير ليحافظ على الحياة، وليمتلك السبيل إلى النمو..
من هنا تبدأ التنمية البشرية، إنها المحاولة الجادة ليس لتقديم المساعدة العابرة، وإنما لمساعدة الفرد على البقاء وعلى العطاء. مساعدة الفرد ليكون في أفضل حالاته وليعطي أفضل ما عنده. ومن هنا فإن مشروع التنمية البشرية يبدأ مع الفرد ليس فقط في قاع المجتمع بل وعلى كل مستوى من مستويات الوجود الاجتماعي.
مشروع التنمية البشرية يواجه حالات الإعاقة الفردية ـ مثلاً ـ ليصقل الملكات الإبداعية التعويضية التي يملكها المعاق، ملكات أنجبت تاريخيا بشار بن برد وأبا العلاء المعري وطه حسين..كما ليقدم مشروعات عمل وإنتاج لكل إنسان بحسبه، ولن نقول كل معاق لأن مشروع التنمية البشرية لا يؤمن بالإعاقة المطلقة بل يؤكد امتلاك كل إنسان لذخر من الطاقات، و يؤكد قدرة كل إنسان على العطاء .
يواجه مشروع التنمية البشرية النساء في البوادي والقرى والعشوائيات والمناطق الأقل حظاً ويقترح لكل منهن كما للرجال مشروعات تنمية.. معينة على تحسين أوضاعهن. كلمة السر في مشروع التنمية اكتشاف الكامن في نفس الفرد وفي بيئته ثم تقديم عود الثقاب المعين على إشعال النار تحت المرجل الذي سيحرك مكنة البخار...
التنمية البشرية ليست مشروع نهوض (اقتصادي) فردي كما قد يتبادر؛ إنها مشروع يتمدد ليجعل الفرد أكثر قدرة على الفهم والوعي، والحوار، وأكثر قدرة على مساعدة الآخرين لكي يكونوا كذلك، ومن هنا يكون التعليم، والتثقيف بعض مشروعه العام. يتحرك مشروع التنمية بيد فرد، لا يحتاج إلى الكثير من التنظير. إنه مشروع الفرد مع الفرد. كيف نجعل كل رجل وامرأة في هذا المجتمع يدرك دوره.
كل من كان عنده فضل من علم أو ثقافة أو فكر أو خبرة عليه أن يعود به على من لا فضل له. عليه أن يتحرك بين الأفراد و المجموعات متطوعا ليعينهم في فضل وقته بفضل ما عنده، وليأخذ بأيديهم على طريق وعي ذواتهم ووعي مجتمعاتهم، ووعي ما يدور حولهم..
نتوقف هنا عند وعيد قرآني في آية، أنزلت لتتلى على مر العصور، نلح في قراءة القرآن على إدراك المراد المطلق من آياته المعجزات:
(فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون، الذين هم يراؤون، ويمنعون الماعون)، هو حض على تقديم المنفعة بلا عوض، منفعة العارية البسيطة في صورها الأولية البسيطة في بيئة البادية الأولى، ومنفعة الخبرة والقدرة، وأدوات التمكين المتقدمة على ماعون البيت في المجتمعات الأكثر تعقيدا ...
ومشروع التنمية ثالثاً مشروع للإرشاد العام، لإكساب الفرد طرائق التفكير المستقيم والعوائد الحياتية السليمة، وأساليب العيش الأليق..
التفكير المستقيم لتتقدم المقدمات العقلية على التصرفات التلقائية الغرائزية، وردود الأفعال الانفعالية. وقد يكون ميدان العمل أبسط حين نجد من الضروري أن نشرح للناس شيئا من قواعد النظاقة، وطرق الوقاية الصحية، وأساليب الحصول على التغذية السليمة، وتربية الطفل، ثم العلاقة مع الجار، والنظرة إلى الآخر، في الحي والقرية. الآخر الثقافي والآخر الديني، الآخر السلطوي والآخر المجتمعي.
من خلال تلك الجولة بإمكاننا أن نعود خطوات أخرى مع التنمية البشرية لنلج عوالم آفاقها الدولية، تعتمد المنظمات الدولية ثلاثة معايير أساسية لملاحظة تطور التنمية البشرية في أي مجتمع. حيث يتم قياس مدى تقدم مشروع التنمية البشرية حسب المعايير التالية:
ـ دخل الفرد السنوي..
ـ والرعاية الصحية التي يتلقاها هذا الفرد..
ـ والتعليم المتطور المنتج..
وهي معايير مترابطة، وتركز المعايير الدولية بشكل أساسي على البعد الاقتصادي للتنمية. نظراً لأن المنظمات الدولية محكومة أصلاً بخلفية رأسمالية تعطي البعد الاقتصادي في بنيتها البعد الأفضل.
وينضاف إلى هذه المعاير الأكثر عموماً معايير إضافية أخرى تتمثل في حالة بعض التشريعات الجماعية في الدولة موضع القياس. وأهم هذه الملامح والعناوين سيادة القانون ومدى التزام الحكومة والمجتمع ببنود التشريعات النافذة. وحقيقة احترام حقوق الإنسان. وتكريس ما يسمى بثقافة المواطنة الصالحة.
وأهم ما في بنود المواطنة الصالحة فيما نراه : موقف إيجابي من المجتمع، ومشاركة فاعلة في بنائه، وعدم الجمود عند السلبي أو العمل على تجاوزه، وروح التسامح مع المخالفين في العقائد أو الأفكار أو الأساليب أو العادات والتقاليد، ثم في نبذ العنف كطريقة للتعاطي ولحل المشكلات، العنف بأبعاده الأدواتية واللفظية، والحرص على المشاركة مع الآخرين، ونبذ الإقصاء، وحب السيطرة والاستئثار والعلو..
كما يدخل في ثقافة المواطنة الصالحة، الانفتاح على العالم، والانخراط في تجارب الإنسانية الحضارية الإيجابية والتمييز بين الغث والسمين. والاعتداد بالهوية والحرص على دخول سوق المنافسة الحضارية والفكرية والثقافية والعلمية والتقنية. ثم في تقديس قيم الإنجاز والإبداع.
ثقافة المواطنة الصالحة.. ترفض العيش في الماضي، وتنظر إلى القيم الربانية على أنها قواعد لبناء جديد في كل زمان، وترفض التقوقع والانجرار، ترفض الخوف من الآخر والشك فيه وتقوم على الجرأة والمبادرة مع الاحتفاظ دائماً بقدرة الذات على التمييز.
بمن يناط مشروع التنمية البشرية..
يناط مشورع التنمية البشرية أساساً بالحكومات وقد كان الدور المقترح للحكومات في عهد النظم الاشتراكية أكبر. كان سيدنا عمر يقول: لو زلقت دابة على شط الفرات لخشيت الله أن يسألني عنها لِم لم أعبد لها الطريق. ولكن الرسول الكريم قال أيضاً: ما آمن بي من بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع وهو يعلم. بمعنى أنها مسئولية الجار عن جاره والأخ عن أخيه وابن عمه (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله..)
تبقى الحكومة مسئولاً أولاً، وينضم المجتمع كرديف ومكمل ومساعد. يحضر عند الغياب، ويكمل النقص ويسد الثغرة..
وفي الختام ليس لنا إلا أن ننتدب من بني وطننا الرجال والنساء ليجعلوا من أنفسهم محلاً للتنمية البشرية وحاملين لمشروعها، يحملون أنفسهم على التطور، ومن حولهم على التطوير..
إن التنمية البشرية هي توسيع لقدرة الإنسان على بلوغ أقصى ما يمكن بلوغه من حيث هو فرد، ومن حيث هو في إطار مجتمعي، يأخذ منه ويرد عليه. مجتمع أفضل، يعطيك وتعطيه بطريقة أفضل.
من الضروري أن نعيد التأكيد على أن التنمية البشرية متعددة الآفاق وليست إقتصادية فقط، إنها إنسانية حضارية علمية وثقافية هي بعض أنماط السلوك، وطرائق العيش، وطبيعة العلاقات إلى جانب كونها قدرة أكبر على الإنجاز الأفضل والتحصيل الأفضل.