يوسف إسماعيل سليمان
زخرت مسيرة الدعوة الإسلامية منذ القدم بنماذج نسائية رائعة مبهرة، أسهمت في نمو هذه الدعوة، بل ونضجها واشتداد عودها وتطورها على امتداد العصور، بل وفي أحلك الأوقات، حتى إنه لتتضاءل هامات الجبال أمام هاماتهِمَّتِهن، وتتصاغر عظائم الأمور أمام جهادهن وفطنتهن وعزمهن وتدبيرهن.
أقدم بعضًا من هذه النماذج في الصفحات التالية لتكون بمثابة نماذج مثلى في التضحية والفداء، والبذل والعطاء، والثبات والإباء، إقرارًا بفضلهن، وإشادة بدورهن، ودعوةً لاحتذائهن، واستكمالاً لمسيرتهن على خطًى تجمع بين الأصالة والمعاصرة.
حلقتنا الأولى(*) مع ماشطة فرعون
كانت تلك المرأة الصالحة تعيش هي وزوجها في ظل مُلْكِ فرعون.. زوجها مقرب من فرعون.. وهي خادمة ومربية لبنات فرعون.
منَّ الله على الزوجين بالإيمان، فلم يلبث فرعون أن علم بإيمان زوج الماشطة فقتله؛ فصبرت واحتسبته عند الله.
بقيت الزوجة تعمل في بيت فرعون تمشط بنات فرعون، وتنفق على أولادها الخمسة، وبينما هي تمشط ابنة فرعون يومًا إذ وقع المشط من يدها، فقالت: بسم الله، فقالت ابنة فرعون: الله أبي؟
فصاحت الماشطة بابنة فرعون: كلا، بل الله ربي وربك ورب أبيك.
فتعجبت البنت أن يُعبَد غير أبيها.
ثم أخبرت أباها بذلك، فعجِب أن يوجد في قصره مَن يَعبُد غيرَه.
فدعا بها، وقال لها: مَن ربُّك؟ قالت: ربي وربك الله.
فأمرها فرعون بالرجوع عن دينها، فرفضت، حبسها وضربها، فلم ترجع عن دينها، فأمر بقِدْرٍ من نُحاس فملئت بالزيت، ثم أحمي عليها حتى غلَت القدْر بالزيت.
وأمر فرعون جنوده أن يوقفوها أمام القدر، فلما رأت العذاب أيقنت إنما هي نفس واحدة تخرج وتلقى الله تعالى، لكن فرعون وقد رأى استهانتها بعذابه، قرر أن يبلغ بها غاية الألم، وكان يعلم أن أحب الناس إليها أولادها الخمسة، فأحضر جنوده الأطفال وهم تدور أعينهم لا يدرون إلى أين يساقون.
فلما رأوا أمهم تعلقوا بها يبكون، فانكبت عليهم تقبلهم وتشمهم وتبكي، وأخذت أصغرهم وضمَّته إلى صدرها، وألقمته ثديها.
فلما رأى فرعون هذا المنظر، فأمر بأكبرهم فجرَّه الجنود ودفعوه إلى الزيت المغلي والغلام يصيح بأمه ويستغيث ويسترحم الجنود، ويتوسل إلى فرعون محاولاً الفكاك والهرب.
ينادي إخوته الصغار، ويضرب الجنود بيديه الصغيرتين وهم يصفعونه ويدفعونه، وأمه تنظر إليه وتودِّعه.
ما هي إلا لحظات حتى أُلقي به في الزيت والأم تنظر وتبكي، وإخوته يغطون أعينهم بأيديهم الصغيرة حتى إذا ذاب لحمه من على جسمه النحيل، وطفت عظامه بيضاء فوق الزيت، نظر إليها فرعون وأمرها بالكفر بالله، فأبت عليه ذلك، فغضب فرعون وأمر بولدها الثاني، فسُحب من أمه وهو يبكي ويستغيث. والأم ثابتة على دينها موقنة بلقاء ربها.
أمر فرعون بالولد الثالث، فسُحب وقُرِّب إلى القدر المغلي، ثم حمل وغيِّب في الزيت. فعل به ما فعل بأخويه. والأم ثابتة على دينها، فأمر فرعون أن يطرح الرابع في الزيت، فأقبل الجنود إليه وكان صغيرًا قد تعلق بثوب أمه. فلما جذبه الجنود بكى وانطرح على قدمي أمه ودموعه تجري على رجليها وهي تحاول أن تحمله مع أخيه على صدرها، وتحاول أن تودعه وتقبله وتشمه قبل أن يفارقها، فحالوا بينه وبينها، وحملوه من يديه الصغيرتين وهو يبكي ويستغيث ويتوسل بكلمات غير مفهومة. وهم لا يرحمونه.
وما هي إلا لحظات حتى غرق في الزيت المغلي، شمَّت الأم رائحة اللحم، ونظرت إلى عظامه وقد رحل عنها إلى دار أخرى.
بكت وتقطع قلبها لفراقه.. هذا الذي طالما ضمته إلى صدرها، وأرضعته من ثديها، وطالما سهرت لسهره، وبكت لبكائه.
كم ليلة بات في حجرها، ولعب بشعرها.. كم قربت منه ألعابه! وألبسته ثيابه!
جاهدت نفسها أن تتجلد وتتماسك.. التفت الجنود إليها وتدافعوا عليها وانتزعوا الخامس الرضيع من بين يديها، وكان قد التقم ثديها، فلما انتُزع منها صرخ، فبكت أمه المسكينة، فلما رأى الله تعالى ذلها وانكسارها وفجيعتها بولدها.. أنطق الله الصبي في مهده فقال الرضيع لها: يا أماه، اصبري فإنك على الحق.
ثم انقطع صوته عنها وغُيِّب في القدر مع إخوته. ألقي في الزيت وفى فمه بقايا من حليبها، وفي يده شعرة من شعرها، وعلى أثوابه بقية من دمعها.
ذهب الأولاد الخمسة.. وها هي عظامهم تطفو على القدر.. ولحمهم يفور به الزيت.. فتنظر الأم المسكينة إلى هذه العظام الصغيرة.
كانت تستطيع أن تحول بينهم وبين هذا العذاب بكلمة كفر تُسمعها لفرعون، لكنها كانت توقن بأن ما عند الله خير وأبقى.
ولم يبق الآن إلا هي، فأقبلوا إليها كالكلاب الضارية ودفعوها إلى القدر، فلما حملوها ليقذفوها في الزيت، نظرت إلى عظام أولادها، فتذكرت اجتماعهم معها في الحياة، فالتفتت إلى فرعون وقالت: لي إليك حاجة.
فصاح بها وقال: ما حاجتك؟ فقالت: أن تجمع بين عظامي وعظام أولادي فتدفننا في قبر واحد. ثم أغمضت عينيها.
وألقوها في القدر، فاحترق جسدها، وطفت عظامها.
ولقد رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) ليلة الإسراء شيئًا من نعيمها، فحدَّث به أصحابه وقال لهم: «لَمَّا كَانَ اللَّيْلَةُ الَّتِي أُسْرِىَ بِي فِيهَا أَتَتْ عَلَيَّ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ؟ فقال: هذه رائحةُ ماشِطةِ ابنةِ فرعونَ وأولادها...»[رواه أحمد في مسنده وصحح إسناده الشيخ شاكر].
فلله در هذه الماشطة ما أعظم ثباتها! وأجزل ثوابها!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) وحديث ماشطة فرعون، رواه البخاري في كِتَاب أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، باب قَوْلِ اللَّهِ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا برقم(3436).
بطولات نسائية في سبيل الدعوة(1)
- التفاصيل