يوسف إسماعيل سليمان
زخرت مسيرة الدعوة الإسلامية منذ القدم بنماذج نسائية رائعة مبهرة، أسهمت في نمو هذه الدعوة، بل ونضجها واشتداد عودها وتطورها على امتداد العصور، بل وفي أحلك الأوقات، حتى إنه لتتضاءل هامات الجبال أمام هاماتهِن، وتتصاغر عظائم الأمور أمام جهادهن وفطنتهن وعزمهن وتدبيرهن.
أقدم بعضًا من هذه النماذج في الصفحات التالية؛ لتكون بمثابة نماذج مثلى في التضحية والفداء، والبذل والعطاء، والثبات والإباء، إقرارًا بفضلهن، وإشادة بدورهن، ودعوةً لاحتذائهن، واستكمالاً لمسيرتهن على خطًى تجمع بين الأصالة والمعاصرة.
حلقتنا الثانية: آسية امرأة فرعون
قلب عامر بالإيمان، هو قلب آسية بنت مزاحم امرأة فرعون. التي قدمت لنا نموذجًا إيمانيًّا رفيعًا إلى الغاية التي عزَّ أن تتكرر في هذا الوجود، في الجرأة على إعلان الحق، والاستمساك به، والثبات عليه، مُتحمِّلة تبعات هذا الاختيار في بسالة منقطعة النظير. قد كانت ملكة على عرشها. على أسِرَّة ممهدة، وفُرشٍ منضدة، وبين خدم يخدمون، وأهل يُكرِّمون، لكنها كانت تكتم إيمانها.
كانت في نعيم مقيم، وحين رأت طغيان فرعون وجبروته واستكباره في الأرض بغير الحق، ورأت قوافل شهداء الإيمان تتسابق إلى السماء، لما رأت ذلك اشتاقت إلى مجاورة ربها، وكرهت مجاورة فرعون الطاغية الجبار.
لما قتَل فرعونُ الماشطة المؤمنة دخل على زوجته آسية يستعرض أمامها قُواه، ويتباهى بجبروته، فصاحتْ به آسية، وقد عضَّ قلبها الألم والأسى من تنكيله بالماشطة: الويل لك! ما أجرأك على الله! ثم أعلنت إيمانها بالله دون خشية أو اعتبار لسلطان فرعون أو بطشه.
غضب فرعون وأقسم لتذوقن آسية الموت أو لتكفرن بالله.
رفضت آسية أن تطيعه، فأمر فرعون بها فمُدت بين يديه على لوحٍ من خشب، ورُبطت يداها وقدماها في أوتاد من حديد، وأمر أن تُضرب فضربت، حتى بدأت الدماء تسيل من جسدها، واللحم ينسلخ عن عظامها.
فلما اشتد عليها العذاب وعاينت الموت رفعت بصرها إلى السماء وقالت كما حكى القرآن على لسانها: ((رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) [سورة التحريم:11]. فارتفعت دعوتها إلى السماء.
ذكر ابن كثير في تفسيره: «فأبصرت بيتها في الجنة». فتبسمت ثم ماتت. نعم، ماتت الملكة التي كانت في طِيب وبخور، وفرح وسرور، نعم تركت فساتينها وعطورها وخدمها وصديقاتها، واختارت الموت، لكنها اليوم تتقلب في النعيم كيفما شاءت.
ولماذا لا يكون جزاؤها كذلك، وهي التي:

طالما وقفتْ تناجي ربها            والليـل مســدول الــبــراقــع

تصغي لنجواها الــسمــــاءُ        وقد جــرت منها المدامع

تدعــو فـــتحتشد  المــلائكُ       والدُّجـى هيمــانُ خاشـــع

والعـــــابدات الـــــزاهـدات         جفَت مراقدها المضاجع

وتـــخــر للــرحمن ســاجــدة       مــــــطـهــــرة الــــنــوازع

هذه هي آسية امرأة فرعون ضربت لنا أعظم الأمثلة في أن القلب متى استقر فيه الإيمان واليقين الحق، فلا يمكن لقوة بشرية مادية مهما بلغت أن تفزعه أو تُحطمه أو تنال من صاحبه، وحُقَّ لآسيا بعد هذه التضحيات الجليلة، والثبات الهائل، أن يذكرها الله في القرآن فيخلد ذكرها، ويُشيد بصلابة إيمانها إلى قيام الساعة، قال تعالى: ((وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ))سورة التحريم، كما أشاد بذكرها النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: "كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ آسِيَةُ امْرَأَة فِرْعَوْنَ،و..."[متفق عليه]، وقال أيضًا: "خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ: مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ" رواه الترمذي وصححه، و ابن حبان والحاكم صححه، والطبراني في الكبير، و صححه السيوطي والألباني.

فهنيئًا لها الجنة ونعيمها، فقد أبدلها الله خيرًا من كل هذه الدنيا وما فيها مقعد صدق عند مليك مقتدر.

JoomShaper