يوسف إسماعيل سليمان
زخرت مسيرة الدعوة الإسلامية منذ القدم بنماذج نسائية رائعة مبهرة، أسهمت في نمو هذه الدعوة، بل ونضجها واشتداد عودها وتطورها على امتداد العصور، بل وفي أحلك الأوقات، حتى إنه لتتضاءل هامات الجبال أمام هاماتِهن، وتتصاغر عظائم الأمور أمام جهادهن وفطنتهن وعزمهن وتدبيرهن.
أقدم بعضًا من هذه النماذج في الصفحات التالية، لتكون بمثابة نماذج مثلى في التضحية والفداء، والبذل والعطاء، والثبات والإباء، إقرارًا بفضلهن، وإشادة بدورهن، ودعوةً لاحتذائهن، واستكمالاً لمسيرتهن على خطًى تجمع بين الأصالة والمعاصرة.
حلقتنا الثالثة مع خديجة بنت خويلد رضي الله عنها.
إنها أم المؤمنين خديجة التي أعطت من نفسها درسًا بليغًا لنساء المؤمنات، في وقوف المرأة إلى جوار زوجها في المواقف الصعبة، والأزمات الخطيرة بالتثبيت والتأييد والمؤازرة. تروي لنا عنها أمُّ المؤمنين عائشة قائلة: أول ما بدئ به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، وكان يخلو بغار حراء حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، جاءه الملك فقال: اقرأ، قال: مَا أَنَا بِقَارئٍ، قال: فأًخَذَنِي فَغَطَّنِي حتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فقال: اقرأ. قلت: مَا أَنَا بِقَارئٍ.. فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: )اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(..."[العلق:1]، فرجع بها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد (رضي الله عنها) فقال: زَمِّلُونِى زَمِّلُونِى. فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي، فقالت خديجة: كلا، والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتَصِل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتَكسِب المعدوم، وتَقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل.. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى، ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ» قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودِي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا. ([1])
ففي هذا الموقف يتبين لنا كيف كانت خديجة (رضى الله عنها) امرأة حكيمة موفورة الثقة، ثابتة الجنان في أحلك اللحظات، زوجها يعود إليها مرتعش الأطراف، مضطرب الوجدان، لا يتمالك نفسه من الخوف والرعب لشيء رآه هاله وأفزعه، فما يكون منها إلا أن تُوفِّر له أولاً ما طلبه من غطاء لتدفئته، ثم تحيطه بالأمان وتشعره بالطمأنينة، ولم تفعل ما تفعله الكثيرات في مثل هذه المواقف من صراخ وعويل، أو إعلان بالمصيبة إلى أهلها وجيرانها ليدركوها ويمنحوها الأمان، وإنما بعد أن تأكدت من سريان بعض السكينة والراحة إلى نفسه، سألته أن يقصّ عليها ما حدث، فلما علمت قالت بلهجة اليقين: كلا. والله لا يخزيك أبدًا، إنك.. وإنك.. ما أحلى وما أجمل أن يستمع الزوج من زوجته في المواقف الصعبة كلمات التأييد والتثبيت والتبشير، وهي كلمات لم تنطلق من فراغ، فقد رأت من علاقتها به وسابق معرفتها به كرمه الظاهر، ونبله الفائق، ومحاسن أخلاقه، فتحدثت بفطرتها النقية الصافية التي ألهمتها أن الجزاء من جنس العمل، ولم يخامرها شك ولو للحظة! ألم تعاشره وتدرك بنفسها صدق ما اشتهر به بين قومه جميعًا من صدق وأمانة وبر.
ومع ذلك بذلت جهدها وسعت وسعها أن تُضاعف اطمئنانه، فأخذته إلى ابن عمها الذي كان صاحب علم وحكمة، فأكد صدق ما ذهبت إليه خديجة بفطرتها، وزادهم فوق ذلك بشارةً بالنبوة، غير أنه حذَّرهما من عداوة الناس، وما يمكن أن يتعرض له بعد إعلان نبوته من إيذاء عظيم وبلاء كبير، ومع هذا عادت معه السيدة خديجة؛ لتكون أول من يُؤمن به، ويشدُّ أزره، ويُقوي عضده كلما ألمَّ به من قومه أذًى، أو نالوه بسوء، وبقيت مدة حياتها معه الملجأ الآمن، والظل الوارف الذي يفيء إليه، والحضن الدافئ الذي يبثه الحنان والثقة حتى لاقت ربها.
فلله درها من امرأة وزوجة وأم استحقت عن جدارة غير مسبوقة أن تنال التكريم في الدنيا والآخرة، وأن يقول عنها النبي (صلى الله عليه وسلم) حين قالت له السيدة عائشة (رضي الله عنها) متدللةً لما غارت من كثرة ما يذكر خديجة ويُثني عليها ويُكرم معارفها: "ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدق (تقصد خديجة)، قد أبدلك الله خيرًا منها (تقصد نفسها)، فيرد النبي (صلى الله عليه وسلم) عليها: «مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا؛ قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلاَدَ النِّسَاءِ»([2]). إنه الوفاء من النبي (صلى الله عليه وسلم) لأحق وأجدر الزوجات به.
وهذا رب العزة I يبعث جبريل (عليه السلام) إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) قبل موتها؛ ليبشر خديجة ببيت عظيم في الجنة؛ فعن أبي هريرة t قال: «أتى جبريل النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسول الله، هذه خديجة ... اقرأ عليها السلام من ربِّها ومني، وبشِّرها ببيت في الجنة من قصَب، لا صخَب فيه ولا نصَب».([3])
رضي الله عنها كانت أول من آمن، وأول من ثبَت وثبَّت النبي (صلى الله عليه وسلم) والمؤمنين، وأول من شارك في الدعوة، ولم تدَّعِ مع ذلك بطولة ولا فضلاً، فاستحقت أن تُعمِّق وتخلد في أجمل تاريخنا بطولتها وفضلها دون أن تُحدِّثنا عن نفسها، وأن تكون من أفضل نساء العالمين في الآخرة كما كانت في الدنيا، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد ..."[4].


([1]) رواه البخاري.

([2]) رواه أحمد.

([3]) رواه البخاري.

[4] - رواه أحمد والحاكم والطبراني وصححه الألباني

JoomShaper