يوسف إسماعيل سليمان
تركها سيدنا إبراهيم في الصحراء، تلبية لأمر جاءه من الله، وكان المكان واديًا غير ذي زرع. هناك في تلك البرية المقفرة المجدبة ترك زوجته هاجر وفلذة كبده إسماعيل وانصرف.
نظرت هاجر حولها في ذهول، ثم نادته قائلة: كيف تتركنا في هذه البرية المجدبة.. لا ماء.. لا زرع.. لا إنسان.. وحوش البرية ستفترسنا.. حر الشمس سيكوينا.. ارأف بنا أيها الرجل.
إبراهيم يبتعد صامتًا لا يجيب.. روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال: فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهبُ وتتركُنا بهذا الوادي الذِي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها فقالت له: آللَّهُ الذِي أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت إذن لا  يضيعنا. ثم رجعتْ.
ظلت هاجر وحيدة مع ابنها في تلك الصحراء القاحلة، ونفد ما معهما من الزاد، وراح إسماعيل يبكي طلبًا للماء. ومن أين الماء في مثل هذه البقعة؟
استمر إسماعيل يبكي، ويتحول بكاؤه إلى أنين يوجع قلب أمه، ويمزقه ألمًا وشفقة. وهاجر في لهفة تنظر بعينين ملؤهما الدموع مرة على رضيعها الظمآن، ومرة على أرجاء المكان تمسحه بعينيها استكشافًا؛ لعل بارقة أمل تظهر فتلوذ بها وتتصبر عما هي فيه، لكن نظراتها ما أسعفتها بشيء، وإنما ارتد إليها طرفها كليلاً حسيرًا.
ظل الوقت يمر ثقيلاً قاسيًا وخفَتَ أنين إسماعيل، وبدا كأن قدرته على البكاء بدأت تخور وتضعف من شدة العطش، وأحست هاجر أن الموت لابد زائرهم بين لحظة وأخرى إن لم يتداركهما الله برحمته.
هاجر تبحث عن أمل:
راحت هاجر تفكر كيف تتصرف، وماذا يمكن أن تفعل في مثل هذا المكان الموحش؟ كانت تفكر وهي ترى وجه إسماعيل الجميل يمتقع.. وملامحه توحي بقسوة ما يعانيه.. هنا قررت أن تفعل أي شيء خلاف السكون والانتظار، فوضعت إسماعيل على الأرض بهدوء. وأسرعت بقوة إلى مرتفع قريب يسمى الصفا تطل منه على ما حولها. ربما ترى شيئًا يعطيها الأمل. علّها ترى قافلة أو إنسانًا أو أي شيء ينقذها وطفلها. لكنها لم تجد أحدًا. فلم تيئس من الفرج فنزلت عائدة؛ لتلقي نظرة على رضيعها لتطمئن أنه ما زال حيًّا، ثم أسرعت إلى المرتفع المقابل ويسمى المروة، ففعلت مثلما فعلت على الصفا، وظلت تهرول بين الصفا والمروة سبع مرات دامعة العين حزينة الفؤاد، لا تكل ولا تمل من السعي، ومن دعاء ربها أن يفرِّج عنهما ويكتب لهما النجاة.
يقول ابن عباس: «وجعلت تنْظُرُ إليه يتلَوَّى، فانطَلَقَت كراهيةَ أَنْ تنظُرَ إليه، فوجدت الصَّفَا أقربَ جبلٍ في الأرض يلِيها، فقامتْ عليه ثم استقْبلَت الوادِي تنظُرُ هل تَرَى أحدًا فلم ترَ أحدًا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلَغَت الوادي رفعَتْ طرَف درعها، ثم سعَت سعْيَ الإنسان المجهود، حتى جاوَزت الوادي، ثم أتت المروة، فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا، فلم تَرَ أحدًا، فعَلَتْ ذلك سبع مرات»([1])
تحت قدمي إسماعيل:
في المرة السابعة استجاب الله لدعائها.. فحين نزلت لتطمئن على رضيعها فوجئت بالمياه تتدفق صافية رقراقة تحت قدميه، فألقت بنفسها على الماء ورشَّت به وجه طفلها الصغير، ثم حملته وسقته حتى ارتوى ورأت نسمات العافية تلوح على محياه، فاطمأنت وفرحت، وانطلقت كلمات الشكر الخالص تصعد من قلبها إلى ربها الذي رحمها وصغيرها، وأنقذهما من حيث لم تحتسب.
إن هاجر لم تشأ أن تكون عقبة في طريق سعي إبراهيمu  لتلبية أمر ربه، وإنما أمدت نفسها بالثقة في ربها.. الرزاق.. العليم.. الكفيل.. وهكذا سار إبراهيم u مطمئنًا أنه ترك زوجة تحسن تقدير الأمور، واثقًا بربه أنه لن يخذله فيها أو في ابنه أبدًا.
فأعطت لنا السيدة هاجر بموقفها المُشرِّف مع زوجها وابنها ملحمة رائعة في القدرة على التكيف مع الظروف الصعبة المفاجئة، وأثبتت أن الاستعداد النفسي بعدة اليقين لأي متغير وطارئ، واستقصاء الجهد منا أولاً، كفيلان باستجلاب العون، خاصة إذا كانا في ذات الله، وأنهما من عوامل الثبات في مواجهة الأزمات، وصار تصرفها رضي الله عنها درسًا مفيدًا لأجيال المسلمين من بعدها وبركة عليهم.


([1]) رواه البخاري في صحيحه.

JoomShaper