لها أون لاين
في ليلة زفافها إلى "صلة بن أشيم" التابعي الجليل، جاء ابن أخيه، فمضى به، وألبسه أجمل الثياب، ثم أدخله عليها في بيت يضوع طيبا، وقد هُيئ كأجمل ما تكون البيوت.
ولما صار معها ألقى عليها السلام، ثم قام يصلي، فقامت تصلي معه، ولم يزالا يصليان حتى وافهما الفجر، وتنفس الصبح، ونسيا أنهما في ليلة الفرح.
إنها أم الصهباء معاذة بنت عبدالله العدوية البصرية، واحدة من التابعيات ذوات الفضل والمكانة. نشأت قريبة من الصحابة الكرام، تنهل من معين علمهم الذي أخذوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن غريبا على معاذة التي تخرجت في مدرسة أم المؤمنين عائشة، وعلي بن أبي طالب، وهشام بن عامر، رضي الله عنهم، والتي رأتهم وروت عنهم.
لم يكن غريبا أن هذا شأنها في العبادة، فلا تكاد تخلو إلى نفسها إلا وهي على موعد مع الصلاة، فقد كانت تحيي الليل كله بالتهجد والتسبيح، وكانت تقرأ من القرآن كل ليلة، فإذا جاء النهار قالت هذا يومي الذي أموت فيه؛ فما تنام، وإذا جاء الليل قالت: هذه ليلتي التي أموت فيها، فلا تنام حتى تصبح، فإذا غلبها النوم، قامت فجالت في الدار تعاتب نفسها، ثم لا تزال إلى الصباح تخاف الموت على غفلة ونوم.

ولأن العبادة كانت هم هذه المرأة الصالحة، فقد تدفقت ينابيع الحكمة على لسانها، وأثرت عنها أقوال تشير إلى فصاحتها وبلاغتها وامتلاكها لناصية الكلام، كما تدل على عمق إيمانها وقوة يقينها، ومن ذلك قولها: "عجبت لعين تنام وقد علمت طول الرقاد في ظلم القبور"، وقولها تنصح وتحذر فتاة أرضعتها: "يابنية كوني من لقاء الله ـ عز وجل ـ على حذر ورجاء، فإني رأيت الرجى له محقوقا بحسن الزلفى لديه يوم القيامة، ورأيت الخائف له مؤملا للأمان يوم يقوم الناس لرب العالمين".

ولا عجب إذن أن تجد الهمة العالية حاضرة في كل محطات حياة هذه المرأة وما يصادفها من ابتلاء، لتضرب المثل الحي لسمو النفس واليقين بقدرة الله وحكمته.

في سنة ثنتين وستين للهجرة استشهد زوج معاذة وابنها في سجستان في قتال الترك، ولما وصلها الخبر صبرت واسترجعت، واجتمع النساء عندها للتعزية فقالت لهن: "مرحبا بكن إن كنتن جئتن للهناء، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن"، فعجبت النسوة من صبر معاذة، وخرجن وهن يتحدثن عما أتاها الله عز وجل من حسن الصبر، وزادها ذلك الموقف في أعينهن منزلة وقدرا.

كانت معاذة مع عبادتها وزهدها فقيهة، شهد لها بذلك الكثير من العلماء. فقال عنها يحيى بن معين: معاذة ثقة حجة، وذكرها ابن حبان في الثقات.

مر عشرون عاما على وفاة زوجها، وفي كل يوم يمر كانت معاذة تستعد للقاء الله عز وجل، وتأمل أن يجمعها بزوجها وابنها في مستقر رحمته. ولما حضرها الموت بكت ثم ضحكت، فقيل لها مم البكاء، ومم الضحك؟..

قالت: أما البكاء فإني ذكرت مفارقة الصيام والصلاة والذكر فكان البكاء لذلك. وأما التبسم والضحك فإني نظرت إلى أبي الصهباء قد أقبل في صحن الدار، وعليه حلتان خضروان وهو في نفر، والله ما رأيت لهم في الدنيا شبها فضحكت إليه، ولا أرني بعد ذلك أدرك فرضا. رحلت معاذة غير أن سيرتها لم ترحل، فما زالت قدوة حية للنساء في كل زمان.


المصادر:ـ مجلة الأسرة.

JoomShaper