محمد إلهامي *
اختزنت صفحات التاريخ الإسلامي كثيرا من المواقف الماجدة والمتألقة لإسهام النساء في الحضارة الإسلامية، حتى إن للمرأة في تاريخ الإسلام ما ليس مثله لا قبله ولا بعده، دليل ذلك أنه حين «انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم  إلى الرفيق الأعلى كان تعداد الأمة التي دخلت الدين الجديد وانخرطت في رعية الدولة الوليدة 124.000 من المسلمين والمسلمات.. وعندما رصد علماء التراجم والطبقات أسماء الأعلام والصفوة والنخبة التي تربّت في مدرسة النبوة وتميز عطاؤها في مختلف ميادين العطاء، رصدوا أسماء نحو ثمانية آلاف من صفوة الصفوة، فكان من بينهم أكثر من ألف من النساء. أي إن التحرير الإسلامي للمرأة قد دفع إلى مراكز الريادة والقيادة أكثر من واحدة من بين كل ثمانية من الصفوة والنخبة إبان التحرير الإسلامي في أقل من ربع قرن من الزمان، وهي أعلى نسبة للريادات النسائية في أي ثورة من ثورات التحرير، أو نهضة من النهضات»(2).
ومنذ نشأت دولة الإسلام في المدينة اكتسبت المرأة منزلة جديدة، فبعدما تفاجأ عمر رضي الله عنه  من أن زوجته تراجعه في الكلام، اندهش حين أخبرته بأن نساء النبي يراجِعْنَه أيضا، وقد تغاضبه الواحدة منهن اليوم كله، فكان مما قال: «كنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار» (3).

ثم لم يُقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم  إلا وكانت المرأة تشير في السياسة، وتقاتل في الحرب وتُعَلِّم الدين، ومنذ أخذ النبي صلى الله عليه وسلم  بقول أم سلمة يوم الحديبية لم يعد مستغربا أن نرى للمرأة مكانا في تاريخ الملوك والخلفاء، بل لم يعد يُستَنْكَر أن يقال على الرجل العظيم «غلبت عليه امرأته»، ولم تكن هذه سبة في حقه إلا أن يكون من المخذولين أمام العدو، أو ممن يرهق الرعية، أو ممن يقدم رضاها على مصلحة الأمة.

لذلك اشتهرت كثير من نساء الخلفاء، مثل الخيزران جارية المهدي، وزبيدة زوجة الرشيد، وصبح البشكنسية جارية الحكم المستنصر الأموي، وتركان خاتون زوجة ملكشاه السلجوقي، وعصمت الدين خاتون زوجة نور الدين زنكي ثم صلاح الدين الأيوبي، والزرقاء زوجة عبد المؤمن بن علي الموحدي، وشجرة الدر زوجة نجم الدين أيوب، والرميكية زوجة المعتمد بن عباد.. وهذا الأخير هو الذي كثر الطعن فيه لأجل حبه لزوجته، وما ذلك إلا لما جناه في ملكه على الأمة من ضعف وذلة أمام العدو، واستبداد واستكبار على الرعية وعلى المسلمين، فكان الطعن فيه طعنا في ضعفه، وسوء تدبيره على الحقيقة.. لا طعنًا في حبه.

وقد اخترنا من بين تلك الطبقة من النساء امرأة غير مشتهرة، لا سيما بين المشارقة، تلك هي زينب النفزاوية.. زوجة الأمراء والملوك، وزوجة الرجلين العظيمين: أبي بكر بن عمر اللمتوني ويوسف بن تاشفين، والتي لُقِّبت بـ «الساحرة»؛ لشدة ذكائها وحسن رأيها وتدبيرها ومشورتها.

في القرن الخامس الهجري كانت مناطق جنوب المغرب الأقصى تعيش جهالة كبرى، كأنما لم يصلها الإسلام قط، حتى ظهر فيهم متنبئون وضعوا لهم أديانا وتعاليم غريبة، وتوزعوا طوائف متفرقة متناحرة، وكان الرجل يتزوج النساء بلا عدد، وكانوا لا ينكرون زنا المحارم ولا ينكرون الزنا بالمتزوجة، حتى خرج رجل منهم إلى الحجّ فمرّ في طريقه بفقيه مغربي فأدرك ما عليه قومه من الجهالة، فعاد إلى قومه بطالب علم شاب اسمه عبد الله بن ياسين.

لكن عبد الله بن ياسين لم يفلح في دعوة القوم، الذين تحزبوا ضده حتى آذوه وطردوه ورفضوا ما جاء به، فسار جنوبا حتى نزل جزيرة يرجح أنها بالقرب من تنبكتو (في مالي) مع نفر قليل ممن استجاب له، وما زالوا يكثرون ويقومون بالدعوة حتى كانوا نواة الدولة المغربية العظيمة.. دولة المرابطين.

نمت دولة المرابطين، وبدأت رحلة توحيد بلاد المغرب تحت سلطانها، فكان من ضمن البلاد التي حاربتهم «تادلا» التي كان يحكمها لقوط بن يوسف المغراوي، فقُتِل في معاركه مع المرابطين، وكانت زينب النفزاوية هي زوجته.. وقد صارت الآن أرملته !

قبل زواجها بلقوط كانت زينب متزوجة من شيخ قبيلة «وريكة» لكن قومها هُزِموا في المعارك القبلية أما جيش لقوط، وبعد مقتل لقوط تزوجها أمير المرابطين: أبو بكر بن عمر اللمتوني، غير أن زواجها لم يدم إلا ثلاثة أشهر فقط ؛ إذ جاءت الأخبار إلى أبي بكر بأن اضطرابات تجتاح الدولة في الجنوب حيث الصحراء- وأَصْل الدولة- فاضطر أبو بكر أن يخرج إلى هناك بنفسه، دون أن يستكمل توحيد المغرب، وقال لزوجته: «يا زينب، إني ذاهب إلى الصحراء وأنت امرأة جميلة بضة لا طاقة لك على حرارتها وإني مطلقك، فإذا انقضت عدتك فانكحي ابن عمي يوسف ابن تاشفين فهو خليفتي على بلاد المغرب»، وهو ما كان.

ولما تولى يوسف بن تاشفين بلاد المغرب أظهر من السياسة والقوة والحكمة ما جعله المؤسس الثاني والشخصية الأهم في دولة المرابطين، فاتسع ملكه واشتدت دولته، وتوحدت المغرب تحت سلطانه، بل ولجأت إليه الأندلس- التي كانت تئن تحت حكم ملوك الطوائف- بعدما سقطت طليطلة (أحصن مدن الأندلس) وتهددت إشبيلية (أكبر وأقوى مملكة أندلسية آنذاك)، فخرج بجيشه وخاض المعركة الخالدة «الزلاقة» التي أنقذ بها الإسلام في الأندلس لمائة عام على الأقل، ثم حين عاد ملوك الطوائف للتقاتل والتحالف مع الصليبيين ضد بعضهم، خاض معركته معهم، فتوحدت تحت سلطانه المغرب والأندلس معا، واستعاد المسلمون بذلك عزة غابت عنهم لنحو قرن من الزمان.

كانت زينب النفزاوية حاضرة طوال هذه المسيرة المجيدة، ويشهد المؤرخون بأنها «حازمة لبيبة ذات عقل رصين، ورأي متين ومعرفة بإدارة الأمور»، بل ينسبون مجد يوسف بن تاشفين وتوحيده بلاد المغرب إليها، فيقول ابن الأثير: «كانت من أحسن النساء، ولها الحكم في بلاده»، حتى كان العاقل ليتمنى الزواج بها، ويقول ابن خلدون: «كان لها رياسة أمره وسلطانه»، ويقول السلاوي: «كانت عنوان سعده، والقائمة بملكه، والمدبرة لأمره، والفاتحة عليه -بحسن سياستها- لأكثر بلاد المغرب»(4)، وقد بالغ بعض أهل الأدب والتظرف فذكروا عنها ما لا يُصَدَّق(5).

وقد لا يعجب المرء من الخبرة السياسية لزينب، وهي التي تنقلت بين أربعة أزواج بفعل أعاصير السياسة والحروب.. ولذلك فقد استطاعت إنقاذ الدولة في لحظة عصيبة بمشورتها، كان ذلك حين رجع عمر بن أبي بكر إلى المغرب بعد أن استقر له أمر الصحراء، وكان ابن تاشفين قد أثمر إنجازات كبرى ما كان لابن عمه أن يفعلها، وكان من البديهي أن عودة أبي بكر تعني عودته أميرا وحاكما للدولة، وهو ما يهدد بزوال الثمرة التي أوشكت على الاكتمال، وكاد يوسف ابن تاشفين يجد حرجا، إذ إن تمسكه ببقائه حاكما يوحي بانقلابه وغدره ونكثه لعهده مع ابن عمه، مع احتمال نشوب حرب- أو انقسام شديد على الأقل- إن تمسك أبو بكر بحقه كأمير للدولة، بينما تنازله لابن عمه يهدد اكتمال إنجاز يوشك على التمام.

لكن زينب التي لم تعش مع أبي بكر سوى ثلاثة أشهر أشارت عليه بأن يتمسك ببقائه أميرا، ورغم أنها لم تعش مع أبي بكر إلا ثلاثة أشهر إلا أنها عرفت من طباعه الورع وحب الوحدة وخشية سفك الدماء، وأشارت عليه بأن يستقبل أبا بكر خارج المغرب لتجنب أي انشقاقات داخلية، وبأن يكلمه من موقع الندّ لا التابع، وأن يكون خروجه في جيش كبير، ومعه الهدايا الكثيرة التي يهديها لابن عمه «ليستعين بها على أمر الصحراء»، وقد كان ما أشارت به، وفهم أبو بكر المراد، وكان يستطيع أن يرجع بهدوء، لكنه- من شدة ورعه- كتب ليوسف بن تاشفين عهد تجديد واستمرار لولايته على المغرب، واستكمل هو طريق الدعوة وإكمال بناء الفرع الثاني من الدولة في الصحراء.

ولقد صحت رؤية زينب، فما أنجزه أبو بكر في الجنوب لا يكاد يُذكر بجانب الإنجاز الضخم ليوسف بن تاشفين في المغرب والأندلس، بل لم تعش دولة أبي بكر كثيرا، بينما ازدهرت دولة المرابطين وأنقذت الأندلس ووحدتها مع المغرب وأنزلت بالصليبيين هزيمة خالدة..

كما صحت رؤيتها في الطريقة التي اتبعتها لتوصيل الرسالة وإنهاء الأمر في هدوء، وبعيدا عن أعين الناس الذين قد يتسبب ظهور أبي بكر في انقسام بينهم يهدد وحدة الدولة، وصحت رؤيتها في فهم طباع أبي بكر وفي التعامل معه ومع رجاله بالرغبة (الهدايا) والرهبة (الجيش الكبير).

***

روى ابن الأثير أن ثلاثة اجتمعوا فتمنى الأول ألف دينار، وتمنى الثاني عملا يتولاه للمسلمين، وتمنى الثالث زوجة ابن تاشفين، فوصل خبرهم إلى ابن تاشفين فأعطى الأول ألف دينار والثاني بعض الأعمال، وأما الثالث فقال له: يا جاهل، ما حملك على تمني ما لا تصل إليه؟ ثم أرسله محبوسا، فأوصت زينب بأن يُطعم كل يوم من طعام واحد لثلاثة أيام، ثم أحضرته وقالت له: ما أكلت هذه الأيام؟ قال: طعاما واحدا، فقالت: فكل النساء شيء واحد، وأمرت له بمال وكسوة وأطلقته.

وهنا نرى امرأة ذات تواضع، وذات حكمة.

الهوامش
* باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية.
1- د. محمد عمارة: التحرير الإسلامي للمرأة ص20.
2- البخاري (2336)، ومسلم (1479).
3- ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/99، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 7/62، والسلاوي: الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى 2/20، 23.
4- النويري: نهاية الأرب 24/265، 266.

JoomShaper