محمد شلال الحناحنة
ما كان يخطر ببال أبي سفيان بن حرب أنّ في وسع أحد من قريش أن يخرج على سلطانه, أو يخالفه في أمر ذي شأن, فهو سيّد مكّة المطاع, وزعيمها الذي تدين له بالولاء.
لكنّ ابنتَه رملةَ المكناة بأمّ حبيبة، قد بدّدت هذا الزعم؛ وذلك حين كفرت بآلهة أبيها, وآمنت هي وزوجها عبيد الله ابن جحش بالله وحده لا شريك له, (رضي الله عنهم جميعا) وصدّقت برسالة نبيّه محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم.
وقد حاول أبو سفيان بكلّ ما أوتي من سطوة وبأس, أن يردّ ابنته وزوجها إلى دينه ودين آبائه, فلم يفلح؛ لأنّ الإيمان الذي رسخ في قلب رملة كان أعمق من أن تقتلعه أعاصير أبي سفيان, وأثبت من أن يزعزعه غضبُه.
ركب أبا سفيان الهمّ بسبب إسلام ابنته رملة, فما كان يعرف بأيّ وجه يقابلُ قريشا, وبعد أن عَجَزَ عن إخضاع ابنته لمشيئته, والحيلولة دونها ودون اتباع محمد عليه السلام.
ولما وجدت قريش أنّ أبا سفيان ساخطُ على رملة وزوجها اجترأت عليهما, وطفقت تضيّق عليهما الخناق, وجعلت ترهقهما أشدّ الإرهاق, حتَّى باتا لا يطيقان الحياة في مكة.
ولمّا أذن الرسول صلوات الله وسلامه عليه للمسلمين بالهجرة إلى الحبشة عند ملكها النجاشي, كانت رحلة بنت أبي سفيان وطفلتها الصغيرة حبيبة وزوجها عبيد الله بن جحش في طليعة المهاجرين إلى الله بدينهم, الفارين بإيمانهم, لكنّ أبا سفيان بن حرب ومن معه من زعماء قريش, عزّ عليهم أنْ يفلت من أيديهم أولئك النفر من المسلمين, وأن يذوقوا طعم الراحة في بلاد الحبشة، فأرسلوا رسُلهم إلى النجاشي يحرضون عليهم, ويطلبون منه أن يُسلمهم إليهم, ويذكرون له أنّهم يقولون في المسيح وأمّه مريم قولاً يسوؤه. فبعث النجاشيّ إلى زعماء المهاجرين, وسألهم عن حقيقة دينهم, وعمّا يقولونه في عيسى ابن مريم وأمّه، وطلب إليهم أن يسمعوه شيئا من القرآن الذي ينزل على قلب نبيّهم فلمّا أخبروه بحقيقة الإسلام, وتلوا عليه بعضاً من آيات القرآن, بكى حتّى أخضلّت لحيته وقال لهم: إنّ هذا الذي أنزل على نبيّكم محمد والذي جاء به عيسى ابن مريم يخرجان من مشكاة واحدة, ثمّ أعلن إيمانه بالله وحده لا شريك له, وتصديقه لنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم. كما أعلن حمايته لمن هاجر إلى أرضه من المسلمين.
ظنّت أمّ حبيبة بعد ذلك أن الأيام صفت بعد طول عبوس, وأنّ رحلتها الشاقة في طريق الآلام قد انتهت إلى واحة الأمان. إذ لم تكن تعلم ما خبأته لها المقادير, ولقد شاء الله تباركت حكمتُه, أنْ يمتحن أمّ حبيبة امتحاناً قاسياً تطيش فيه عقول الرجال ذوي الأحلام, وأن يخرجها من ذلك الابتلاء الكبير ظافرةً تتربّعُ على قمّة النجاح.
ففي ذات ليلة أوتْ أمّ حبيبة إلى مضجعها, فرأت فيما يراه النائمُ أنَّ زوجها عبيد الله بنَ جحش يتخبّط في بحر لجّيّ غشيتْهُ ظلمات بعضها فوق بعض, وهو بأسوأ حال. فهبت من نومها مذعورة مضطربة. ولمْ تشأ أنْ تذكر له أو لأحد غيره شيئاُ مّما رأتْ لكنَّ رؤياها ما لبثت أنْ تحققت, وإذ لم ينقض يومُ تلك الليلة المشؤومة حتّى كان زوجُها عبيد الله بن جحش قد ارتدّ عن دينه وتنصّر.
ثمَّ أكبَّ على حانات الخمارين يعاقر الخمر فلا يرتوي منها ولا يشبع. وقد خيّرها بين أمرين أحلاهما مُرُّ: فإما أنْ تطلّق. وإمّا أن تستجيب لزوجها الذي جعل يُلحّ في دعوتها إلى التنصّر, وبذلك ترتدّ عن دينها ـــ والعياذ بالله ــ وتبوء بخزي الدنيا وعذاب الآخرة.
وهو أمر لا تفعله ولو مُشط لحمها عن عظمها بأمشاط من حديد. وإمّا أن تعودَ إلى بيتِ أبيها في مكَّة, وهو ما زال قلعة للشرك, فتعيش فيه مقهورة مغلوبة على دينها. وإمّا أن تبقى في بلاد الحبشة وحيدة شريدة, لا أهل لها ولا وطن ولا معين. فآثرت ما فيه رضي الله عزّ وجلّ على ما سواه. وعزمت على البقاء في الحبشة حتّى يأتي الله بفرج من عنده.
لمْ يَطل انتظار أمّ حبيبة كثيراً, فما إنْ انقضتْ عدّتها من زوجها الذي لم يمض بعد تنصّره إلاّ قليلاً حتى أتاها الفرج. لقد جاءها السعدُ يرفرفُ بأجنحته الخضر فوق بيتها المحزون على غير ميعاد, ففي ذات ضحى طلق المُحَيّا طرق عليها الباب, فلمّا فتحته فوجئتْ (بأبرهة) خادمة النجاشيّ ملك الحبشة.
فحيتها بأدب وبشر واستأذنت بالدخول عليّها وقالت: إنّ الملك يحييك ويقول لك إنّ محمّداً رسول الله قد خطبك لنفسه. وأنّه بعث إليه كتاباً وكلّه فيه بأن يعقد له عليك فوكّلي عنك من تشائين!! استطارت أمّ حبيبة فرحاً, وهتفت: بشرّك الله بالخير.. بشرّك الله بالخير.. وأخذت تخلع ما عليها من الحليّ, من أساور وخواتيم وغيرها وأعطتها لأبرهة. ولو كانت تملك كنوز الدنيا كلّها لأعطتها لها في تلك اللحظة.
ثمّ قالت لها: لقد وكلتُ عنّي خالد بن سعيد بن العاص؛ فهو أقرب الناس إلىّ, وفي قصر النجاشيّ الرابض على رابية مطلّة على روضة من رياض الحبشة النضرة اجتمع وجوه الصحابة المقيمون في الحبشة، وعلى رأسهم جعفرُ بن أبي طالب, وخالدُ بن سعيد بن العاص, وعبدُالله بنُ حذافة السهمّي وغيرهم (رضي الله عنهم جميعا) ليشهدوا عَقد أمّ حبيبهَ بنت أبي سفيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثمَّ حُملت إلى رسول الله فرحة مطمئنة, فلمّا لقيته, أخبرته بما كان من أمر الخطبة, فسرَّ بخبرها عليه السلام.
روابط ذات صلة
أمّ المؤمنين رملة بنت أبي سفيان الثابتة على دينها ثبات الجبال الراسيات!
- التفاصيل