محمد شلال الحناحنة
صحابيّتُنا هذه جمعت المجدَ من أطرافه كُلّها. فأبوها صحابيّ، وجدّها صحابيّ, وأختها صحابيّة, وابنها صحابيّ, وزوجها صحابيّ. وحسبها بذلك شرفاً وفخراً.
أمّا أبوها فالصدّيق خليل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في حياته وخليفته من بعد مماته. وأمّا جدّها فأبوعتيق والد أبوبكر, وأمّا أختها فأمّ المؤمنين عائشة الطاهرة المبرّأة. وأمّا زوجها, فهو صاحب رسول الله وأوّل من سلّ سيفه جهاداً في سبيل الله, وأمّا ابنها فعبدالله بن الزبيرالثابت على الحق, الزاهد العابد, رضي الله عنه وعنهم أجمعين.
فهل هناك مجد أسمى من هذا المجد. أيّها الإخوة ؟! إنّها بإيجاز أسماءُ بنت أبي بكرالصدّيق وكفى. كانت أسماء من السابقات إلى الإسلام، إذ لم يتقدّم عليها في هذا الفضل غير سبعة عشر مسلماً من رجل أو امرأة, وقد لقّبت بذات النطاقين لأنّها صنعت للرسول صلوات الله عليه ولأبيها رضي الله عنه، يوم هاجرا إلى المدينة زاداً, وأعدّت لهما سقاءً, فلمّا لم تجد ما تربطهما به, شقّت نطاقها شِقّيْن. فربطت بأحدهما المزود. وبالثاني السّقاء, فدعا لها النبي عليه الصلاة والسلام أن يبدلها الله منهما نطاقين في الجنّة, فلقّبت لذلك بذات النطاقين.
تزوّج بها الزبير بن العوّام رضي الله عنه, وكان شابّاً فقيراً, ليس له خادم ينهض بخدمته, أو مال يوسّع به على عياله غير فرسٍ اقتناها. فكانت له نعم الزوجة الصالحة, تخدمه وتسوس فرسَه. وترعاه وتطحن النوَى لعلفه, حتى فتح الله عليه فغدا من أغنى أغنياء الصحابة.
ولمّا أتيح لها أن تهاجر إلى المدينة فراراً بدينها إلى الله تعالى، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم, وكانت قد أتمّت حملها بابنها عبدلله بن الزبير فلمْ يمنعها ذلك من تحمّل مشاق الرحلة الطويلة, فما إنْ بلغت قباءَ حتّى وضعتْ وليدها فكبّر المسلمون وهلّلوا؛ لأنّه كان أوّل مولودٍ يولَد للمهاجرين في المدينة. فحملته إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ووضعته في حجره, فأخذ شيئاً من ريقه وجعله في فم الصبيّ, ثمّ حَنَّكَهُ ودعا له. فكان أوّل مادخل في جوفه ريقُ رسول الله عليه الصلاة و السلام.
وقد اجتمعَ ـ إخوة الإيمان ـ لأسماء بنت أبي بكر من خصائل الخير، وشمائل النُّبل، ورجاحةِ العقل ما لم يجتمع إلاّ للقليل النادر من الرجال. فقد كانت من الجود بحيث يضرب بجودها المثل: حدّث ابنها عبدالله قال: ما رأيت امْرأتين قطُّ أجود من خالتي عائشة وأمّي أسماءَ. لكنَّ جودَهما مختلفٌ: أمّا خالتي فكانت تجمع الشيء إلى الشيء، حتّى إذا اجتمع عندها ما يكفي قَسَمتْهُ بين ذوي الحاجات. وأمّا أمّي فكانت لا تُمسِكُ شيئاً إلى الغد
وكانت أسماء إلى ذلك عاقلَة تُحسِن التصرّف في المواقف الحرجة. من ذلك أنّه لمّا خرج الصدّيق مهاجراً بصحبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حمل معه مالَه كلّه, ومقدارُه ستّةُ آلاف درهم, ولم يترك لعياله شيئاً. فلمّا علم والده أبو قحافة برحيله ـ وكان ما يزال مشركاً. جاء إلى بيته وقال لأسماء: والله إنّي لأراهُ قد فجعكم بماله بعد أنْ فجعكم بنفسه, فقالت له: كلاّ يا أبتِ إنّه قد تركَ لنا مالاً كثيراً, ثمّ أخذت حصىً ووضعته في (الكوّة) ـ وهو المكان الذي كانوا يحفظون فيه المال ـ, وألقت عليه ثوباً, ثمّ أخذت بيد جدّها ـ وكان مكفوف البصرـ وقالت: يا أبتِ, انظر كم ترك لنا من المال, فوضع يده عليه وقال: لابأس. إذا كان ترك لكم هذا كلّه فقد أحسن. وقد أرادت بذلك أن تسكّنَ نفسَ الشيخ، وألاّ تجعله يبذل لها شيئاً من ماله. ذلك لأنّها كانت تكره أن تجعلَ لمشرك عليها يداً حتّى لو كان جدّها.
ولم ينسَ التاريخ لأسماء شدّة حزمها، وقوّةَ إيمانها، وهي تلقى ولدها عبدالله اللقاء الأخير في ثباته على الحقّ ووقوفه أمام الحجّاج بن يوسف الثقفي في مكة، حيث رفعت كفّيها إلى السماء وهي تقول: اللهم ارحمْ طولَ قيامه, وشدّة نحيبه في سواد الليل والناس نيام. اللهم ارحمْ جوعَه وظمأه في هواجر المدينة ومكّة وهو صائم. اللهم ارحمْ برّه بأبيه وأمّه, اللهم إنّي قد سلّمتُه لأمرك, ورضيتُ بما قضيتَ له, فأثبني عليه ثواب الصابرين. ولمْ تغربْ شمس ذلك اليوم إلاّ كان عبدالله بن الزبير قد لحق بجوار ربّه، ولم يمضِ على مصرَعه بضعة عشرَ يوماً إلاّ كانت أمّه أسماء قد لحقت به, وقد بلغت من العُمر مئة عام, ولمْ يَسقط لها سنٌّ ولا ضرس,ولم يغِب من عقلها شيء!
أسماء بنت أبي بكر التي جمعت المجد من أطرافه
- التفاصيل