ربيعة قدير.. أم الإيغور
الشرق الاوسط
من دائرة السلطة في بكين إلى المنفى في واشنطن.. أصبحت رمز الصراع الداخلي الصيني
واشنطن: مينا العريبي
«إنه اللقب الذي اختاره أناسي لي». هكذا تشرح ربيعة قدير لقب «أم الإيغور» الذي اشتهرت به، وتعبر عن المسؤولية الثقيلة التي تقع على كتفيها النحيلين. إلا من يرى قدير وهي تعمل من مكتب صغير ذي طاولتين، في عمارة على بعد أمتار من البيت الأبيض في واشنطن، حولها صور عائلتها وصور مع شخصيات أميركية مختلفة، قد لا يصدق أن أمامه امرأة وصفت في السابق بأغنى سيدة في الصين، وكانت عضوا في مؤتمر الشعب الوطني الصيني. فسيرة قدير تحمل الكثير من مفارقات الحياة، من صعوبة حياة طفلة لعائلة لاجئة، إلى رفاهية التقارب مع السلطة الصينية، إلى معاناة أم لأولاد في السجن، وطائفة اثنية ودينية تواجه نظاما شموليا.
واليوم تؤكد قدير على التزامها بـ«المعارضة السلمية»، وتركز على جذب التأييد الدولي لقضيتها في مواجهة الصين. وقالت في حوار مع «الشرق الأوسط» إن الضغوط الدولية تعتبر السلاح الأمثل لشعبها، «إنه الأمر الوحيد المتاح لنا للدفاع عن أنفسنا». ولكن الحكومة الصينية تتهم قدير بأنها العقل المدبر للاضطرابات الأخيرة في مقاطعة شينغيانغ، التي يسميها الايغور بتركستان الشرقية، وأنها تتعامل مع متطرفين لزعزعة استقرار الصين بالتواطؤ مع قوى خارجية. وتحاول قدير، من خلال ترأسها «المؤتمر الدولي للايغور» أن تزيد من التوعية العالمية لمعاناة أبناء طائفتها، ولكن في الوقت نفسه التأكيد على أن عملها وطني وغير مدعوم من الخارج. كما أن قدير تظهر قدرتها على المناورة السياسية مع النظام الصيني، الذي تفهم تركيبته بعد أعوام من العمل فيه، فقد أبدت استعدادها في تهدئة الشوارع في شينغيانغ في حال طالبت السلطات الصينية من أبناء طائفة الهان عدم مواجهة أبناء الايغور. وعنوان السيرة الذاتية لقدير يحمل معاني كثيرة، وهو «مصارعة التنين: صراع امرأة من أجل السلام مع الصين». فقدير تعتبر رمزا ليس فقط لشعب غير معروف كثيرا، بل تعتبر أيضا رمزا للمشكلات الداخلية للصين وصراعاتها الداخلية. وقد تحالفت قدير منذ فترة مع الرمز الأكبر لهذه المعادلة، وهو الدالاي لاما، الزعيم الروحي لأهالي التبت والوجه الأكثر شهرة للمعارضة الصينية. وكثيرا ما تتم مقارنة قدير بالدالاي لاما، الذي ألقته للمرة الأولى في المنفى في الولايات المتحدة. وساعد الدالاي لاما بتسليط الأضواء الخارجية على قدير، بعد وصولها إلى الولايات المتحدة، إذ ظهر مع قدير وحياها أمام 16 ألفا من مؤيديه في واشنطن، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2005، مطالبا باحترام جميع الأقليات في البلاد. وكان ذلك اللقاء الأول بينهما وقد أدى إلى تعاون وثيق بينهما، حتى إن الدلاي لاما كتب مقدمة السيرة الذاتية لقدير. وكانت منظمات إنسانية، وعلى رأسها منظمة العفو الدولية، قد ناصرت قدير وطالبت بالإفراج عنها خلال سنوات اعتقالها، التي تؤكد قدير أنها تعرضت خلالها للتعذيب النفسي، ولكن ليس الجسدي. وتعتبر قدير أن معرفة السلطات الصينية بسمعتها في الخارج قد دفعت السلطات الصينية إلى مراعاتها نسبيا وعدم تعرضها لأذى. والمعروف عن قدير تاريخها المعاصر في مواجهتها مع السلطات الصينية بعد اعتقالها لمدة ست سنوات، ونفيها إلى الولايات المتحدة. إلا أن حياتها السابقة كانت حافلة بمحطات أخذتها من جذور فقيرة وبسيطة إلى سدة السلطة في الصين. فقد ولدت قدير في 21 يناير (كانون الثاني) 1947 لأسرة إيغورية فقيرة، تزوجت وعمرها 16 عاما من دون أن تكمل دراستها. إلا أنها كانت منذ صغرها طموحة، وتريد أن تنجح في حياتها، فبنت إمبراطورية بدأت من عملها في غسل الملابس للحصول على لقمة العيش. وفي أوج نجاحها، كانت قدير تملك 8 شركات، وسمتها مجلة «فوربز» الأميركية النافذة في عام 1995 بأنها ثامن أغني شخصية صينية.
وقدير كانت من بين أبناء الصين الذين استفادوا من الانفتاح الاقتصادي النسبي في الثمانينات من القرن الماضي، وفتحت شركة لها مختصة بغسل الملابس بشكل مهني عام 1987، لتفتح بعدها متاجر كبيرة وتنشط في مجال العقارات. وبالإضافة إلى نشاطها التجاري، زادت اهتمامات قدير بحقوق أبناء الايغور، وعملت على حمايتها من خلال الأعمال الخيرية، خاصة في ريف مقاطعة شينغيانغ. ونجاحها في مجال الأعمال فتح لها الأبواب في عالم السياسة، الذي عادة ما يكون مدخله ضيقا في الصين، لتصبح بمنتصف التسعينيات ممثلة للصين في الأمم المتحدة بموجب قرار الحكومة المركزية الصينية. وأسست قدير جمعية «مشروع أمهات ألف عائلة»، الذي ساعد نساء من الايغور في إطلاق مشاريع عمل صغيرة. ولكن في أوج نجاحها المهني، انهار زواج قدير، لتتزوج بعدها من صديق روزي، الذي شاركها العمل الإنساني.
وتشرح قدير كيف فقدت سلطاتها في الصين وأصبحت مطاردة من السلطات الصينية، بسبب احتجاجاتها على مواجهة انتهاكات حقوق الإنسان ضد الايغور، قائلة: «كنت أؤمن بالحكومة الصينية، وتصورت إذا قمت بالحديث عن الانتهاكات في شينغيانغ، ستنتبه بكين». ولكن حديث قدير عن تلك الانتهاكات، ولقاءها مع ناشطين لحقوق الإنسان داخل الصين وخارجها، أغضب السلطات الصينية، كما سلطت الأضواء على زوجها، الذي فر من الصين وانتقل إلى الولايات المتحدة عام 1996. وأجبرت السلطات الصينية ربيعة على الطلاق من زوجها رسميا بسبب فراره.
ووصلت نقطة الانشقاق بين قدير والسلطات الصينية عندما احتجت علنا في مجلس الشعب الصيني، (البرلمان)، لقتل المئات من شباب الايغور في اضطرابات عام 1997 في مدينة غلجا. وبعد أن فشلت في لفت انتباه المسؤولين في السلطة المركزية لمأساة قمع تلك الاضطرابات، قررت التخلي عن خطابها المصادق عليه رسميا أمام البرلمان، لتلقي خطابا انتقدت فيه الحكومة الصينية ومعاملتها للشعب الايغوري مباشرة. وكانت الحكومة الصينية تنتظر من قدير الثناء على معاملة الايغور وقمعهم، لكنها ارتجلت خطابا آخر، قالت فيه: «هل خطيئتنا أن الصينيين غزوا أرضنا؟ إننا نعيش في ظروف بشعة». ولم تحصل قدير على نجدة بعد خطابها، بل أثارت غضب الحكومة الصينية، ليتم طردها من البرلمان، وتسحب منها الحصانة وجواز سفرها، خوفا من التحاقها بعائلتها في الولايات المتحدة.
ولم تعكف قدير عن عملها في مجال حقوق الإنسان، بل زادت من نشاطها حتى قررت السلطات الصينية اعتقالها في أغسطس (آب) 1999 بتهمة «تهديد أمن البلاد». وتم اعتقال قدير وهي في طريقها للقاء وفد من الكونغرس الأميركي، وهي علاقة ما زالت تحرص قدير على الحفاظ عليها، وقد التقت بكبار أعضاء الكونغرس وعلى رأسهم رئيسة مجلس النواب الأميركية نانسي بلوسي. وصوت مجلس النواب الأميركي في سبتمبر (أيلول) 2007 على قرار يدعو للإفراج عن أبناء ربيعة قدير، والكف عن القمع الثقافي واللغوي والديني بحق شعب الايغور.
وحكم على قدير بالسجن لمدة 8 سنوات، وكانت سنتان منها في الحبس الانفرادي. إلا أنه بسبب ضغوط إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، وتسليط منظمات حقوق الإنسان الضوء على قضيتها، تم إطلاق قدير سنتين قبل انتهاء فترة الحكم عليها. فأطلقت في مارس (آذار) من عام 2005 لترحل إلى الولايات المتحدة، قبل 3 أيام من وصول وزيرة الخارجية الأميركية حينها كوندوليزا رايس، إلى بكين. وفي مكتب قدير في واشنطن صور لها مع الرئيس الأميركي السابق جورج بوش وزوجته لورا، وقد عبرت مرات عدة عن امتنانها للإدارة الأميركية التي عملت على إطلاقها. وفي 17 مارس أقلت قدير طائرة من الخطوط الجوية الأميركية «يونايتد»، لتغادر بلدها للمرة الأخيرة، وتصل إلى الولايات المتحدة حيث تسكن في ولاية فيرجينيا، بالقرب من العاصمة واشنطن. وتقول قدير إنها تأمل بالعودة إلى بلدها، ليس كسياسية ولكن كناشطة في مجال حقوق الإنسان. وبينما ترسم صورة لقدير على أنها مسالمة وتدعم «التظاهر السلمي»، إلا أن الحكومة الصينية تعتبرها مارقة ومؤيدة لنشاطات إرهابية. واتهمت صحيفة «بيوبلز ديلي» الصينية الناطقة بالإنجليزية قدير بأنها «انفصالية تتآمر مع الإرهابيين والمتطرفين الإسلاميين، ومحرضة تدعم عدم الاستقرار بين مؤيديها داخل الصين وخارجها». وبالطبع، تنفي قدير هذه الاتهامات، وتقول: «الحكومة الصينية تريد اضطهادنا فقط لأننا مسلمون، اتهاماتهم ليست جديدة ولا تؤثر علينا». ومنذ إطلاقها من حبسها، يروج مؤيدو قدير لإمكانية حصولها على جائزة نوبل للسلام، وهي الجائزة التي حصل عليها الدالاي لاما عام 1989، وزادت من شعبيتها حول العالم. وقد احتجت الحكومة الصينية مرات عدة على احتمال ترشيح قدير للجائزة العريقة، مبلغة وفدا نرويجيا في سبتمبر (أيلول) 2008 أنها ستعترض على ترشيح الناشطة لهذه الجائزة. ومنحت منظمة «هيومن رايتس واتش» قدير أعلى جائزة لحقوق الإنسان عام 2000، لتحصل في عام 2004 على جائزة «مؤسسة رافتو» النرويجية. وعلى الرغم من إقامتها في الولايات المتحدة، تبقى قدير قلقة على أبناء طائفتها. وقبل أن تكون والدة الايغور، وعددهم يتراوح بين 11 مليون و11.5 مليون، قدير أم لـ11 ابنا وابنة. واشتهرت ابنتها عقيدة روزي عندما أطلقت بيانا باسم عائلتها عند وصول والدتها إلى الولايات المتحدة عام 2005، قائلة»: «شعورنا يتخطى السعادة، لقد انتظرنا هذه اللحظة لخمسة سنوات ونصف، ونشكر كل الذين عملوا لهذا اليوم السار». ولكن الأيام السارة في عائلة قدير لم تستمر طويلا، إذ خلال سنة تعرضت عائلة قدير في الصين إلى مضايقات متزايدة. وتم اعتقال أولادها، ابليكيم وعاليم وقهر، في مايو (أيار) 2006، ليطلق أحدهم بعدها بأشهر ويبقى قيد الإقامة الجبرية، بينما ابنتها راشنغول لا تزال في الصين تحت المراقبة وقيد الإقامة الجبرية. وبينما تتحدث ربيعة بحماس وانفعال عندما تتحدث عن حقوق الايغور، عادة ما يخفت صوتها عند الإشارة إلى أبنائها في الصين. وتقول: «بالطبع إنني أخشى عليهم وأتمنى رؤيتهم ولكن ما أعانيه لا يختلف عن غيري من أمهات الايغور». وربما من أقرب الأشخاص إلى قدير اليوم عمر كانات، نائبها في «مجلس الايغور العالمي» ولكن الأكثر من ذلك مترجمها ومساعدها الأقرب في ترتيب مواعيدها مع المسؤولين والإعلام في واشنطن. فقدير لا تتقن الإنجليزية، وتعتمد على كانات لتوصيل رسالتها إلى العالم الخارجي. ويتحدث كانات باحترام ومحبة شديدتين عن قدير، قائلا: «إنها خصصت حياتها للايغور، وكل ما تريده العيش بسلام».
وأضاف: «السيدة قدير تنسق بين جماعات الايغور المختلفين، هي مظلة للايغور حول العالم، وبرئاستها تساعد على توحيد الايغور، الذي اضطر الكثير منهم للهجرة من وطنهم بسبب أفعال الحكومة الصينية». وتابع: «على السيدة قدير وعلينا كلنا الذين نعمل في الخارج علينا أن ننسى عائلاتنا وإلا لن نستطيع العمل. الحكومة الصينية هددت السيدة قدير من الحديث وإلا ستواجه عائلتها الغضب لكنها لم تتوقف». وشرح كانات أنه عندما تتحدث قدير مع أي من أفراد عائلتها، فيقولون لها «لدينا ضيوف»، في إشارة إلى رجال المخابرات الذين يراقبونهم. وأضاف: «الضغوط كبيرة لكنها لن ترضخ وفي قلبها لا تنساهم».
ويعتبر كانات وغيره من الناشطين الايغور قدير أنها الوجه الإنساني والدولي المثالي لتذكير العالم بشعب مازال الغموض يلفه، خاصة مع قوانين الصين لمنع لغة الايغور وثقافتهم. وتعمل قدير دائما على تذكير العالم بثقافة شعبها، وعرف عنها إعطاء الهدايا، مثل المعاطف المحيوكة باليد والقبعات التقليدية، لكل من تلتقيه من مسؤولين وإعلاميين، قائلة: «هذه من بلدي، هذه هي ثقافتنا». وتمثل قدير تحديا حقيقيا للحكومة الصينية، من إعلانها أنها والدة لـ11 ابن وابنة، رغم أن القانون الصيني يسمح بطفل واحد فقط، إلى ظهورها الإعلامي اليومي المنتقد للحكومة الصينية. إلا أنها تؤكد على عدم رغبتها في قيادة حركة انفصالية، قائلة: «أريد حماية الحقوق والحياة، ولا أريد غير ذلك». وكانت تقدر ثروة قدير بانها 29.5 مليون دولار في التسعينيات من القرن الماضي، في الصين قبل أن تخسر تلك الأموال بعد سجنها، كما خسرت حياتها العائلية مع ترك نصف عائلتها في الصين وحرمانها من العودة إلى بلدها. لكن تؤكد قدير أنه ثمن مستعدة لدفعه على أمل تحسين أوضاع أبناء شعبها. وتؤكد قدير: «إنني أدافع عن حقوق الايغور ليست كايغورية، ولكن كإنسانة لا أقبل الظلم». وعادة ما تعبر قدير عن ندمها لعدم نجاحها في الدفاع عن أبناء الايغور في الصين، قائلة: «عندما كنت في الصين، حاولت العمل من خلال النظام من أجل حرية شعب الايغور، لقد فعلت أفضل ما بوسعي لكنني فشلت». ولكنها مصرة على عدم الفشل في هذه المهمة وهي الآن خارج الصين.
ربيعة قدير.. أم الإيغور
- التفاصيل