الكاتب:د.وليد حداد
ـ القدرة على مواجهة الأزمات:
قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه (الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون)، ويقول الشنقيطي في تفسير هذه الآية: «والمعنى أن الناس لا يتركون دون فتنة، أي ابتلاء واختبار لأجل قولهم آمنا... أي امتحنوا واختبروا بأنواع الابتلاء حتى يتبين بذلك الابتلاء الصادق في قوله: (آمنا) من غير الصادق، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «أشد الناس ابتلاء الأنبياء، ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل»، وهذا المفهوم يعبر عنه في العصر الحديث بالأزمة، فالقدرة على مواجهة الأزمات والابتلاءات هي صفات القادة والمنظمات والدولة الناجحة فبدون الأزمات لا يمكن أن نبرع في حل مشاكلنا، وكما يقول الصينيون «الأزمات فرصة للتطوير».
وأيضا يقول الله عز وجل عن حادثة الإفك (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم)، فالابتلاء والأزمة كلاهما خير متى ما امتلكت القدرة على المواجهة واستعددت لذلك كثيرا، فحادثة الإفك تعد من أشد ما جاء على النبي صلى الله عليه وسلم، فعندما اتهمت زوجته وحبيبته وقرة عينه عائشة رضوان الله عليها أحب الناس إلى قلبه ـ وعندها يرتاح، وعندها يمرح، وعندها يتطيب ـ بالزنا في حادثة الإفك المشهورة، والتي تزعمها رأس النفاق عبدالله بن أبي ابن سلول وسار بها في أنحاء المدينة ومجتمعها (يرجع إلى أصل الرواية في البخاري وشرحها الرائع في فتح الباري) حيث انقطع الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم شهرا كاملا وسبب أزمة كبيرة لرسول الله وكادت هذه الحادثة تقصف بمجتمع الصحابة المثالي النزيه المنزه عن الفواحش فكيف بزوجة النبي وأحب الناس إليه وابنة أحب الناس إليه أبو بكر الصديق رضوان الله عليه، وكاد أن يحدث القتال بين قبيلتي الأوس والخزرج أكبر ساكني المدينة، وأيضا كاد النبي أن يفارق زوجته، والقصة مؤلمة لمن قرأها كاملة في البخاري، ولكن الله سبحانه وتعالى أراد امتحان نبيه وامتحان صحابته على مثل هذا الأمر الجلل، ونزل الوحي بعد ذلك في سورة النور مبرئا أم المؤمنين عائشة رضوان الله عليها من فوق سبع سماوات، وقالت أم المؤمنين ما كنت اعتقد أن الله سينزل بي قرآنا يقرأ إلى يوم القيامة، وهذا دليل على مكانتها الكبيرة عند الله سبحانه وتعالى، حيث يقول العلماء ان الله لم يبرئ في القرآن من الزنا إلا ثلاثة وهم نبينا يوسف عليه السلام، ومريم بنت عمران عليها السلام، وأمنا عائشة رضوان الله عليها، فهذه الحادثة تدل على قدرة أسرة النبي صلى الله عليه وسلم على مواجهة الأزمات وقدرة الرسول صلى الله عليه وسلم على إدارتها إدارة صحيحة فاعلة تحفظ أسرته وتحفظ مجتمعه ودولته، ومن أهم قواعد نجاح إدارة الأزمات هو الاستعداد لها وتحديد كيفية إدارتها وفق قواعد واضحة ومحددة، فاستعداد النبي صلى الله عليه وسلم كان بالاستعداد الصحيح والبناء الرباني لأسرته ولنفسه، فكان يعلمهم الصدق، والتضحية، والمبادرة، والتصدق، ومعاملة الناس بالحسنى وغيرها من أخلاق النبوة، فهل نتوقع أن أسرة قد بنيت على مثل هذه القواعد الربانية لا تصمد أمام الأزمات، بلى والله إنها تصمد وتنجح بالاختبار، بل وتؤسس قواعد جديدة للنجاح من خلال هذه الأزمة، هذا بالإضافة إلى الأسلوب الرائع الذي قام النبي صلى الله عليه وسلم بإدارة هذه الأزمة وذلك من خلال القواعد التالية:
- الصبر على الابتلاء والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى:
عدم الاتهام إلا من خلال الدليل، ولذلك ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى زوجته وسألها: «أما بعد يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت قمت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله، تاب الله عليه»... فردت عائشة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أهلها بقولها: «اني والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم اني بريئة والله يعلم اني بريئة لا تصدقوني بذلك ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني بريئة لتصدقوني، والله ما أجد لكم مثلا إلا قول أبي يوسف (فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون)، فالرسول صلى الله عليه وسلم قرر قاعدة هنا أنه لا يمكن اتهام المرأة إلا بالدليل، والمتهم بريء حتى تثبت إدانته خصوصا في أعراض النساء، ولذلك أنزل الله سبحانه وتعالى في سورة النور والتي نزلت بها براءة أمنا عائشة رضوان الله عليها (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا، وأولئك هم الفاسقون)، فالمتهم بريء حتى ثبت إدانته، وفي حق المرأة يجب الإتيان بأربعة شهود شاهدوا واقعة الزنا بأم أعينهم وإلا فالقصاص.
ـ الشورى على مستوى الأسرة:
البناء الأسري يجب أن يتضمن أمر الشورى، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمره في أمور الدنيا كله شورى بين أصحابه وأسرته وهذا من سر قوته صلى الله عليه وسلم، ففي حادثة الإفك شاور صلى الله عليه وسلم أقرب الناس إليه، ففي الحديث الصحيح... «فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد (رضوان الله عليهم)، حين استلبث الوحي، يستأمرهما في فراق أهله، فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود، فقال: يا رسول الله أهلك ولا نعلم إلا خيرا، وأما علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير وإن تسأل الجارية تصدقك «...فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة، فقال: أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك، قالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن ـ الماعز ـ فتأكله...، وسأل أيضا زينب بنت جحش، فقال يا زينب ماذا عملت أو رأيت فقالت، يا رسول الله أحمي سمعي وبصري وما عملت إلا خيرا..». وهكذا رسخ رسول الله مبدأ المشورة والقرار الجماعي بالأخص فيما يخص هدم أو بناء الأسرة أو اتخاذ قرار رئيسي في أسرته.
ـ حماية النسيج الاجتماعي من الفتنة والدمار:
القائد الحاذق يحافظ على بناء مجتمعه بالأخص في أوقات الأزمات والابتلاءات، فهذه الأزمة ـ حادثة الإفك ـ عصفت بمجتمع المدينة وصالت وجالت بين أروقتها وبين رجالها ونسائها وأصبحت مصدر فتنة ومعول هدم ولكن هيهات هيهات أن يحدث ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم موجود بحكمته وقيادته الفاعلة والحاذقة، ففي حديث الإفك «...قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي، فقام سعد بن معاذ رضوان الله عليه، فقال: يا رسول الله أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من أخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلا صالحا، ولكن احتملته الحمية، فقال لسعد كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن خضير وهو ابن عم سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتناور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله قائم على المنبر فلم يزل رسول الله يخفضهم حتى سكتوا وسكت... «، فالقائد لا يضع أحكاما أوقات الأزمة بالأخص التي تدمر نسيجه الاجتماعي وقوته المجتمعية سواء السياسية أو الاقتصادية وهذا مبدأ رائع في إدارة الأزمات فإيثار النفس والحفاظ على المنظمة والهدف الأساسي للمجتمع هو الأسمى حتى لو نال من القائد ما نال من أذى.
ـ درء المفاسد أولى من جلب المصالح:
وهذه القاعدة استنتجها شيخ الإسلام ابن تيميه من واقع حادثة الإفك وهي قاعدة جليلة في السياسة الشرعية وفي الإدارة العامة للدولة، فبعد نزول الوحي وبراءة عائشة رضوان الله عليها، ونص القرآن على جلد من قال بالإفك، قام النبي صلى الله عليه وسلم بجلد كل من مسطح ابن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، ولكنه ترك عبدالله بن أبي ابن سلول ولم يجلدة، وقال العلماء ان عبدالله بن ابي ابن سلول قائد قومه وكاد أن يملك على المدينة لولا قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم أفقده هذا المنصب، ورجع في معركة أحد بثلث الجيش فأي حد يقام عليه يعني ثورة كبيرة في المدينة وهي التي ما زالت تعيش التعصب القبلي، فجلدة صحيح أنه قد يحقق مصلحة شرعية ولكنه قد يسبب حربا أهلية في المدينة تأكل الأخضر واليابس، فتركه الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل الحفاظ على مجتمعه وحتى يرتقي الصحابة في مفاهيمهم العقائدية والشرعية فيتركوا تعصبهم لقبائلهم وأسرهم لصالح الدين، وهذا أمر يتطلب وقتا حتى ينضج ويتثبت هذا المفهوم التربوي العظيم، ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح قاعدة يغفل عنها كثير من القادة ومن رؤساء المؤسسات والمنظمات وتتسبب غالبا في فشلهم بالأخص عند إدارة الأزمات.
(يتبع غدا)
الأبعاد الإدارية والاقتصادية في سيرة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها (2 ـ 4)
- التفاصيل