الأبعاد الإدارية والاقتصادية في سيرة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها (3 - 4)
- التفاصيل
الكاتب:د.وليد حداد
إدارة الأسرة من أسباب النجاح في العمل القيادي:
الإدارة الناجحة للأسرة هي فن إداري مهم وسبب رئيسي لنجاح القائد، فأول أمر يقوم به القائد هو وضوح الرؤية لأسرته وأهدافه في الحياة وتوافق أسرته مع هذه الرؤية، وهذا ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعززه في أسرته، فقال الله عز وجل مخاطبا النبي صلى الله عليه وسلم ليوصل أزواجه هذا المفهوم (يأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا، وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما)، والأمر الآخر هو بناء الأسرة على الحب الزوجي والعاطفة الجياشة وقضاء الوطر الجنسي بين الزوجين. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصرح بحب عائشة بين أصحابه وكما مر علينا في الحديث السابق عندما سأله عمرو بن العاص عن أحب الناس إليه فقال عائشة، وكان يقبل زوجته حتى في رمضان، فعن عائشة رضوان الله عليها أن رسول الله كان يقبلني وهو صائم، وأيكم كان أربا لأربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولمسلم (في رمضان)، فروى البخاري عن عائشة قال: «كنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد»، والقاعدة الثالثة هي الترفيه والفكاهة مع الأسرة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «زارتنا سودة يوما فجلس رسول الله بيني وبينها إحدى رجليه في حجري والأخرى في حجرها، فعملت لها حريرة، فقلت كلي، فأبت، فقلت: لتأكلي أو لألطخن وجهك، فأبت فأخذت من القصعة شيئا فلطخت به وجهها، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجله من حجرها لتستقيد مني، فأخذت من القصعة شيئا فلطخت به وجهي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك» رواه النسائي، وكان صلى الله عليه وسلم يتنزه مع عائشة رضوان الله عليها كما روى البخاري، «إذا كان بالليل سار مع عائشة يتحدث»، هذا بالإضافة إلى إقامة الأسرة على قاعدة الشورى ومشاورتهم في أمور دنياهم.
أهمية الحفاظ على النظام الاجتماعي:
من أهم قواعد نجاح المجتمعات والدول وجود نظام اجتماعي واضح (system) وهذا لا شك أوضحه الله عز وجل في كتابه، ففي قضايا الطلاق عندما حدد الله عز وجل أوجه الطلاق قال (تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون)، فهناك نظام واضح وصارم ويمنع الجميع من تعديه، ولذلك أوجب الله عز وجل من يطعن بشرف المرأة بدون دليل أن يجلد ثمانين جلدة، وهكذا في كثير من الأمور، فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: «حسبك من صفية كذا وكذا»، قال بعض الرواة: تعني قصيرة، فقال صلى الله عليه وسلم: «لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته» رواه أبو داوود والترمذي، وأيضا عندما شفع في أمر المخزومية التي سرقت فقال «وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يديها».
فذلك نظام اجتماعي على مستوى الأسرة والمجتمع صارم يوجهه المجتمع نحو النجاح والازدهار والسعادة.
أهمية ودور المرأة في المساهمة في بناء المجتمع:
للمرأة دور كبير في المجتمع المسلم، فهي على الرغم من أنها تحافظ على النواة الأساسية للمجتمع وهي الأسرة، وتقويها وتحافظ عليها وتربي الأجيال إلا أن لها دور في البناء، وأهمها كما قلنا التربية والتعليم فهي مهمة أساسية منوطة بالمرأة، ولها حق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكانت عائشة رضي الله عنها تكاتب الصحابة متى ما رأت خللا أو انحرافا عن هدي النبي، فبعثت عائشة رضوان الله عليها إلى أبي هريرة: «لا تحدث بهذا الحديث ـ تعني «أفطر من أصبح جنبا في رمضان» ـ أشهد على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنبا من أهله ثم يصوم» رواه النسائي، وكانت تستقبل الوفود فروى أبو داوود أن نسوة من أهل الشام دخلن على عائشة رضي الله عنها فسألتهن عن الحمامات، وأيضا كانت لها مساهمات اجتماعية في المناسبات، فقالت: «أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أدخل امرأة دخلت على زوجها قبل أن يعطيها شيئا» رواه أبو داود، وكانت تحسن حتى لغير المسلمين، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «ان يهودية دخلت عليها فاستوهبتها طيبا، فوهبت لها عائشة فقالت (أي اليهودية): أجارك الله من عذاب القبر، قالت: فوقع في نفسي من ذلك حتى جاء رسول الله قالت: فذكرت ذلك له قلت: يا رسول الله أن للقبر عذابا؟ قال: نعم» رواه أحمد.
ثالثا: الأبعاد الاقتصادية:
1 ـ الفرد الاقتصادي دمار للمجتمع، إذ لابد من أن يكون الاقتصاد ذات مسؤوليات مجتمعية:
بني المجتمع الغربي على الرجل الاقتصادي economic man، والذي يجمع المال كهدف أساسي ولا يهمه ما يضر المجتمع اذا ما ردعته القوانين، فنراهم يصدرون السجائر مع علمهم أنها تقتل الملايين من البشر سنويا، وأيضا يمنعون بيع القمح والذرة وغيرهما من المواد الغذائية لترتفع أسعارها ويموت أيضا على أثرها ملايين من البشر جوعا، وحتى يتدارك الغرب هذه المعضلة وهي تنمية المسؤولية الاجتماعية للفرد لديهم، قام باعفاء الأفراد من الضرائب بقدر ما تبرعوا، وأما في مجتمعنا المسلم فهناك أروع الأمثلة في عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبناء للمسؤولية الاجتماعية بجانب التحصيل الاقتصادي، فعن عائشة رضوان الله عليها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب، وللخازن مثل ذلك لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئا» رواه البخاري.
وعنها رضوان الله عليها: «ان امرأة دخلت عليها ومعها ابنتان فأعطيتها تمرة فشققتها بينهما» رواه أحمد، وورد عنها رضوان الله عليها: «أنها جاءها مال فأنفقت منه، ثم لما جاء المغرب قالت لمولاتها: أئتي لنا بطعام الفطور ـ لتفطر من صومها ـ قالت: لو أبقيت لنا شيئا حتى نشتري طعاما، قالت: لولا ذكرتني قد نسيت»، وعن عروة بن الزبير أنه قال في وصفها، رأيتها تقسم سبعين ألفا وهي ترفع درعها، وهذا تعليم للمسلمين وبناء لقاعدة أصيلة وهي المسؤولية الاجتماعية للرجل الاقتصادي فلله حق في أمواله.
2 - اقتصاد الدولة يجب أن يكون مبنيا على نظام وقواعد واضحة وحازمة:
من مميزات الاقتصاد الاسلامي أنه مبني على قواعد واضحة ومحددة في الكتاب والسنة، وتعنى هذه القواعد باتاحة الحرية الاقتصادية وحق التملك ولكن بحدود اقتصادية واجتماعية وسياسية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، عدم استغلال حاجات الناس من خلال الاقراض وفرض الفوائد الربوية، ومنع الاحتكار، والمساهمة في بناء المجتمع في نظام الزكاة التي يجب أن تؤدى، وتحريم الغش، وتحريم تسلم الهدايا من المسؤولين، وحماية المستهلك، ووجود نظام رقابي اقتصادي واداري (الحسبة، ديوان المظالم) ...الخ، ولقد ساهمت أم المؤمنين عائشة رضوان الله عليها في توضيح كثير من الأمور الاقتصادية التي تهم المسلمين بحكم قربها من النبي صلى الله عليه وسلم:
- بيع الأقساط: ففي الصحيحين عن عائشة أن بريرة اشترت نفسها من سادتها بتسع أواق في كل عام أوقية، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
- تحليل اللحوم التي تباع من أهل الكتاب: فقد روى البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها: «أن قوما حديثي عهد بكفر يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «سموا عليه أنتم وكلوا».
- وروى البيهقي والدارقطني وعبدالرزاق في مصنفه، عن تحريم بيع العينة، أن امرأة دخلت على أم المؤمنين عائشة رضوان الله عليها في نسوة فسألتها امرأة فقالت: يا أم المؤمنين كانت لي جارية فبعتها من زيد بن أرقم بثمانمائة الى العطاء، ثم ابتعتها منه بستمائة، فنقدته الستمائة وكتبت عليه الثمانمائة، فقالت: عائشة بئسما اشتريت وبئسما اشترى زيد بن أرقم، انه أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، الا أن يتوب، فقالت المرأة: أرأيت ان أخذت رأس مالي ورددت عليه الفضل، قالت: «فمن جاءه بموعظة من ربه فانتهى فله ما سلف».
- وعن عائشة في حدود صرف المرأة في الأسرة، ان هند بنت عتبة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، ان سفيان لا يعطيني ما يكفيني ويكفي بني، فقال صلى الله عليه وسلم: «خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك» رواه البخاري.
ونكتفي في هذا الباب لأن أحاديث أمنا عائشة كثيرة ولكن للاستدلال على الجوانب الاقتصادية في سيرتها.
(يتبع غدا)