بقلم د.: أسماء بن قادة ..
إن الكون يقوم على حضور عنصرين اثنين أنثوي وذكوري وتناغمهما وتجاذبهما، ولا أقول تكاملهما، لأن التكامل يعكس معنى رياضيا عقلانيا وماديا جامدا، في حين يعكس التناغم معنى انسانيا وطبيعيا وكونيا وجماليا وسريا وضمنيا وغامضا، يمكن التعبير عن ذلك بمبدأ الزوجية، وهو المصطلح الذي أفضله عند البحث في خصائص الأنوثة والذكورة والعلاقة بينهما عن باقي المفاهيم المتداولة مما نتج عن مختلف موجات النسوية (feminisme ) في تطوراتها من حيث النشاط والتنظير مثل المساواة والتماثل والاختلاف...الخ... وذلك وفقا للخطاب القرآني الذي يصيغ العلاقة بين هذين العنصرين في بعدها الكوني والكلي والنهائي (وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى) (البروج 22) (ومن كل شيء خلقنا زوجين) (الذاريات 49)، ( هو الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ليسكن إليها ) الأعراف 189.  ومن هذا المنطلق لا يمكن أن يتحقق التناغم في الكون وفي الطبيعة وفي المجتمعات الانسانية إلا من خلال حضور زوجي، قائم على التقاطب والانجذاب بين عنصر وآخر، انجذاب افتقار بهدف الإثراء من خلال التواصل الإنساني بكل أشكاله ومعانيه، انطلاقاً من الولاية الإيمانية المتبادلة والعمل الصالح في إطار الاستخلاف والعمران والبناء الحضاري في الفضاء الإنساني العام إلى أرقى معاني التلابس والمودة والسكن والرحمة والحب والإفضاء في إطار العلاقة الزوجية التي يحددها الميثاق الغليظ، على مستوى الفضاء الخاص.
من عمق هذا التصور الكوني والانساني المركب، جاء الإسلام لينتقل بالأنوثة من المستوى الحسي والبدائي التجزيئي إلى المستوى المعنوي والكلي عندما جعل الله عز وجل أحد طرفي التقاطب وهو المرأة شريكا في العبادة والتكليف وعمارة الكون، وكانت السيدة عائشة رضي الله عنها هي النموذج الذي جسد هذا التحول الجذري باعتبارها ذلك القطب المقابل لمن اصطفاه رب الكون ليحمل رسالة الرحمة والخير والعدالة والحق والجمال والذوق للإنسانية جمعاء، ليزيده إثراء واكتمالا وهو في قمة عطائه من حيث استكمال مهمته في بناء الدولة وتبليغ الرسالة.
 لقد مثلت السيدة عائشة النموذج الأمثل للتحول في مجموع العلاقات الاجتماعية التي كانت سائدة ووسيلة لتفكيك الذهنيات وخلخلة نظام التفكيرالقائم بمغالطاته وتصوراته الدونية والمتحيزة عن المرأة واختراق المنظومة المعرفية والنسق الثقافي الموروث عن حياة الجاهلية، فالمشرع لم يعد ذكرا أو أنثى ولا شيخ القبيلة ولااللات أو العزه، إن المشرع اليوم مرجعية متعالية مفارقة غير متحيزة، خلقت الكون على مبدأ الزوجية وجعلت الانجذاب على إيقاع عناصر التناغم، وجعلت من الاختلاف تنوعاً يكسب الحياة طعماً مختلفاً، ليتفاعل الجميع وفق قاعدة الأرواح جنود مجندة ما تجاذب منها ائتلف وما تناكر منها اختلف.
فالرسول عليه الصلاة والسلام وبما منح من أسرار الكون يدرك بأن التعامل مع الأنوثة من منطلق حسي أو دوني، يعكس غفلة عن إدراك سر الحياة ومكمن قوتها، لذلك كان إذا سئل عن أحب الناس إليه قال عائشة دون حرج أو تردّد، وهو ردّ يحيلنا إلى حديثه (حبّب إلي من دنياكم ثلاث، الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة ) إنه ذلك النوع من الحب الذي يرتبط بمعنى للأنوثة يجعلها تتوسط عبق الطيب وذكر الله عز وجل في اسمى معانيه، وهو ذاته المعنى الذي جعل رسول الله يسأل وهو مقبل على الالتحاق بالرفيق الأعلى (أين أنا غداً) ، دليل على استشعار الحاجة إلى سكن لا يقتصر على ما هو حسي، الأمر الذي يدعو إلى البحث في خصائص هذه الشخصية النسائية محل ذلك التقاطب ومصدر ذلك الحب الكبيرمن خلال تجاوز القراءة التقليدية التي يتم التركيز فيها عادة على كونها حبيبة رسول الله وأنها البكر الوحيدة التي تزوجها الرسول عليه الصلاة والسلام وعلى جمالها وذكائها وغيرتها وكلها أسباب وعوامل موضوعية ومهمة، ولكن لابد من عوامل أخرى معنوية وفكرية على المستوى نفسه من الأهمية أو تزيد عمقت ذلك الحب وجعلته يصمد في وجه تلك المحن والعواصف، فما هو السر الذي جعل ذلك الحب يرفع التحديات في وجه حادثة الإفك والإيلاء وينجح في التخيير وصمد أمام مكائد الضرائر ومتطلبات التعدد الواسع الذي ضم ثمانية من النساء لم يقصر الرسول عليه الصلاة والسلام يوماً في حق إحداهن....الخ....
من المهم التأكيد ابتداء على أن السيدة عائشة لم تعرف حياة الشرك أو الوثنية، فهي تشربت الإسلام واستوعبته وعاشته عقيدة وشريعة وسلوكاً بعيداً عن أي آثار أو ترسبات لعقيدة أخرى، كما نشأت في بيت يعيش تعاليم الدين الجديد بقناعة راسخة وجهاد وتحمل وتضحية، ومن هذا المنطلق تأتي صلاحية هذا النموذج للمرأة المعاصرة التي تولد في بيت مسلم تقوم العقيدة فيه على التوحيد، كما نمت شخصيتها وتطورت وفقاً لموقف الإسلام من المرأة والموقع القوي للمرأة في الحياة الإسلامية، فعائشة لا يمكن مقارنتها بالسيدة مريم أو آسية أو السيدة خديجة رضي الله عنهن جميعاً، لأن أم المؤمنين قد تفاعلت مع الحياة في كل جوانبها، فالمرأة التي تسابق زوجها وتتفرّج على الحبشة، وتحضر نزول الوحي وتشاركه في الحروب الغزوات وتؤدي معه العمرة وفريضة الحج، وتعيش معه حباً ناضجاً وقوياً ومركباً، ويختارها الرسول عليه الصلاة والسلام لتكون آخر وجه يلمحه قبل التحاقه بالرفيق الأعلى، ويدفن في بيتها، إنها جديرة بأن تكون مدرسة تقوم على وظيفة الاستدراك والمراجعة والمراقبة والتصحيح، ولا ضير أن يعود إليها الخلفاء والأئمة والعلماء وعامة الناس أيضاً.
وأن تمثل مرجعاً لكبار الصحابة ومدرسة لكل الأجيال من الرجال والنساء وعلى مر العصور، كما أن السيدة عائشة لم تعرف رجلا في حياتها السابقة أو اللاحقة غير الرسول عليه الصلاة والسلام، وبالتالي تعتبر بحق خريجة بيت النبوة والرسالة بدون أي تشويش أو اختلاط أو تداخل مع أي روافد أخرى قريبة أو بعيدة غير روافد المعرفة والحكمة، إن شخصية بهذا التعدّد في المواهب وهذه القوة في الشخصية وفي العقيدة والإيمان والسلوك، وبهذه الخبرة والتراكم جديرة بقراءة معرفية مصحوبة بقراءة مقاصدية أيضاً، ليس من منطلق أي آثار لآليات صراع من الماضي والحاضر من المستلبين والمستشرقين وغيرهم من ضحايا الجهل المقدس! ولكن لأنها تعكس نموذجاً جديراً بأن يدرس ويتبع.
أهم بعد وخاصية لهذه الشخصية، كونها مستقلة، حيث يكتشف المتأمل في كل مواقفها، ما يرافقها من استشعار دائم في ذاتها بكونها صاحبة رسالة وقضية ظلت تعمل لها وتتابعها وتناضل من أجلها وتجتهد في خدمتها إلى آخر لحظة من حياتها، لقد كانت الأولوية لديها في دينها ورسالتها، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يستمد أهميته عندها من اصطفاء الله عز وجل له كأفضل من يمكن أن يؤدي مهام تلك الرسالة ويوصل تلك المعاني من بين بني البشر، وربما ذلك هو السر الأكبر في حب الرسول عليه الصلاة والسلام لها، إنه التوتر الذي تعيشه باستمرار في كل ما يهم الدين الجديد وتفاعلاته مع الحياة في كل جوانبها، ومن ثم كل ما يهم الرسالة التي يحملها.
يؤكد ذلك مجموعة الحوارات التي كانت تجري بينها وبين رسول الله، وهي في مجموعها مؤشرات ودلائل في غاية من الأهمية في تحديد مدى استيعابها لمعنى الربوبية والتوحيد واستشعارها المستمر والمطلق للعبودية الكاملة لله عز وجل في أعمق معانيها الأمر الذي يدل على أنها المسلمة صاحبة الرسالة والقضية والإدراك الكامل لثقل الأمانة الملقاة على ذلك الجيل في تبليغ الدين الجديد.
يظهر ذلك جلياً، في رد فعلها أيام حادثة الإفك، لما قالت لها أمها قومي إلى رسول الله، لكي تشكره على ما انتهت إليه قضية الإفك وبراءتها منها، فقالت عائشة (والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله )، الأمر الذي يدل على تواصل مباشر ودائم مع الله عز وجل ويقين مطلق وثابت به وتحديد واضح لموقع الربوبية وموقع النبوة والرسالة من الدين عندها.
أما الموقف الثاني فإنه يرتبط بقضية التخيير والإيلاء، عندما اعتزل الرسول عليه الصلاة والسلام نساءه شهرا، بسبب القصة المعروفة عن مطالبة زوجاته له بزيادة النفقة عليهن، وكانت عائشة تنظر استيفاء الثلاثين يوماً بعد أن كان قد أقسم على هجرهن لمدة شهر كامل، وقد عدتهن يوما بعد يوم، وكان من المفترض أن تكون ساعة دخول الرسول عليه الصلاة والسلام عليها، مناسبة تبعث على الفرح والسرور، ولكنها آثرت أن تقف عند حدود الشرع، لكي تطمئن أولا، ثم يأتي الفرح والابتهاج في المرتبة الثانية، ومن ثم سمع الرسول أول ما سمع منها (إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا، وإنا أصبحنا لتسع وعشرين ليلة أعدها عدا؟) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (الشهر تسع وعشرون، وكان ذلك الشهر تسعا وعشرين)، فالأولوية إذن عند عائشة ليس لعودة الحبيب، وليس لأنها أول من دخل عليها من نسائه وهو المتوقع، ولكن للشريعة أولا والاطمئنان على أن قسم النبي صلى الله عليم وسلم قد استوفى المدة كاملة، وقد طلب منها رسول الله استشارة أبويها في ذلك التخيير، ليقينه بأنهما لن يختارا إلا البقاء وكذلك كان، وجرت عائشة وراءها في ذلك القرار الذي طلبت فيه منه ألا يخبرهن حبا وغيرة، جرت كل زوجاته وراءها، ليس من منطلق رأي تعسفي أو استبدادي، ولكن من منطلق التشاور والتخيير والإغراء بالبقاء بعيدا عن ارتكاب أبغض الحلال إلى الله.
ثم يأتي حديث بئس أخو العشيرة الذي أخرجه البخاري ، عن رجل استأذن على رسول الله عليه الصلاة والسلام ، فقال ائذنوا له، بئس أخو العشيرة، فلما دخل تطلق في وجهه وألان له الكلام، فلم تقبل عائشة هذا التناقض الظاهر، ولما نهض وانصرف قالت : يا رسول الله، قلت الذي قلت، ثم ألنت له الكلام؟ فقال: أي عائشة! إن شر الناس من تركه الناس، أو ودعه الناس اتقاء فحشه، إنها عائشة التي لا يمكن أن تقبل بأي اضطراب يربك منظومتها العقائدية والسلوكية، حتى وإن كان زوجها فهو يمثل بالنسبة لها المعنى والنموذج والقدوة والأسوة.
هكذا كان يجري الحوار في بيت النبوة، بين زوجين حبيبين، وبين رسول نبي، وسيدة تستشعر في كل لحظة أنها معنية بواقع هذا الدين في حاضره ومستقبله، من منطلق إدراكها لمعاني الرسالة واعتقادها الراسخ بأن تلك المعاني هي مصدر الخير والسلام والسعادة للإنسانية.
فهل تعيش بيوتنا هذا المستوى من الحوار على الرغم من تطور الأنظمة الاجتماعية وانتشار التعليم ومرور الانسانية بحضارات متدافعة كان من المفترض أن ترقى إلى مثل هذا المستوى من الحوار والمناقشة، بعيدا عن الاستبداد بالرأي أو التجاوز أو اللامبالاة، أليست هذه الحوارات الناضجة والراشدة التي تظهر فيها شخصية المرأة منطلقة واثقة واضحة بدون ارتباك أو تردد، يستقبلها عقل يملك من الحكمة والقدرة على الاستيعاب ما يحقق الاحتواء والتوازن والمعنى الحقيقي للشراكة والتفاعل الانساني العميق على مستوى العلاقة الزوجية مع الاحتفاظ بمقام الرسول عليه الصلاة والسلام كشريك لا ينطق عن الهوى حظيت وسعدت به السيدة عائشة رضي الله عنها.
ومع هذا الحوار الفكري والعقلي حول قضايا الحياة المختلفة، نأتي إلى تلك اللغة الحميمية بين الزوجين الحبيبين، حيث غالبا ما تسرد له عائشة عندما يلجآن إلى تلك المساحة الخلوة حكايات مما تملكه من رصيدها من القصص والأخبار فيتفاعل معها الرسول عليه الصلاة والسلام، ليأخذ من القصة أجمل ما فيها ويكمل نقصها، كأن يختم كلامها في قصة أبي زرع وأم زرع بقوله (وأنا لك كأب زرع لأم زرع ولكني لاأطلقك) إنها مثال لعلاقة مكتملة في جميع ابعادها فالمناقشة والحوار والاختلاف ليس إلا دليلاً على الاكتمال، لتأتي تلك اللحظات الحميمية التي يختطفانها من بين الواجبات والمشاغل لتثري كل منهما وتزيده قوة تعينه على تحمل أعباء الرسالة.
لقد حاضرت حول حقوق المرأة ومفهوم الأنوثة ومفهوم النسوية وموجاتها وخلفياتها المعرفية وعن المرأة وقوانين الأسرة ومنظومات الأحوال الشخصية في أوروبا والعالم العربي وكتبت عن الموضوع، مرت عليّ عبرها الكثير من الشخصيات والنماذج النسائية من كل الحضارات والأديان ولكن تبقى شخصية السيدة عائشة شخصية استثنائية، لا أستطيع ربطها بوالدها، فلقد كان والدها يوبخها في كثير من الأحيان، لأنه كان يريد لها أن تتعامل مع الرسول عليه الصلاة والسلام ليس كزوجة وحبيبة، بل كامرأة مسلمة تتعامل مع الرسول النبي، فكان ينقذها الرسول عليه الصلاة والسلام منه ويداعبها قائلا، ارأيت كيف أنقذتك! ولم أتمكن ايضا من ربطها ببيئتها فلقد تجاوزت تلك البيئة وارتقت بإدراكها إلى مقامات أعلى استيعابا وسلوكا، الأمر الذي يؤكد بأن القدر وحده خصها بتلك المواهب والملكات التي مكنتها أن تكون في مستوى ذلك التقاطب مع نبي الله صلى الله عليه وسلم.
ولقد كانت السيدة عائشة تعيش مع الرسول عليه الصلاة والسلام على طبيعتها، وربما الرسول نفسه هو من وفر لها الأجواء كي تعيش بدون تكلف أو انضباط مصطنع يتجاوز حدود الذات البشرية من منطلق الخوف، الأمر الذي تجسده هذه القصة، حيث كان الرسول عليه الصلاة والسلام عند السيدة عائشة، فأرسلت السيدة حفصة إليه بطعام مع جارية لها، فأخذت عائشة الصحفة فكسرتها وانتثر الطعام فقام الرسول عليه الصلاة والسلام يجمع ما انتثر من الطعام ويقول، غارت أمكم وهو يبتسم ابتسامة تدل بوضوح على إدراكه الكامل لسيكولوجية المرأة، وأخذ صحفة جديدة وأرسلها لأم المؤمنين بدل ما كسر، ولننظر إلى سلوك الرسول عليه الصلاة والسلام الذي استوعب سلوك عائشة وبرره وهو يبتسم وأرضى حفصة وربما كان سعيدا بغيرة حبيبته عليه، الله أعلم ماذا كان سيكون رد فعل غيره من البشر على كسر الصحون لأسباب ربما تفوق بكثير مجرد غيرة من امرأة محبة بمستوى السيدة عائشة.
إن مثل هذه الشخصية العظيمة لجديرة أن تقدم كنموذج ليس للمرأة المسلمة المعاصرة، ولكن للمرأة عموما والتي قدمت لها السيدة عائشة كطفلة ضحية لتقاليد مجتمع ودين يتعدى على طفولة لم تتعد التسع سنين، إنها المغالطة التي دفعتني إلى الشروع في تأليف كتاب حول السيدة عائشة باللغة الفرنسية يحلل تلك الحوارات النموذجية التي كانت تجري بينها وبين الرسول عليه الصلاة والسلام لما وجدت فيها من ارتقاء وعمق انساني ونقاش يعكس أبعاد الرسالة التي تحمّل كلاهما أعباءها ويبرز غنى وثراء تلك الشخصية المتميزة التي ينبغي أن تفاخر بها المرأة المسلمة نساء العالم بما هي عليه من علم وذكاء وانطلاق وثقة وقوة والتزام وتميز!

 

JoomShaper