بسم الله الرحمن الرحيم
عجيبٌ أمر هذه الأمَّة؛ كما أخرجت رجالاً لا يُعرف لهم مثيلٌ في تاريخ الأمم، أخرجت أيضًا النّساء الفُضْليَات القدوات التي لا تطاولهن نساء أمة من الأمم، ومن عجب بعد ذلك أن ترى الأجواء المحيطة بالمسلمين يجول في سمائها أسماء لبعض النساء من تاريخ الحضارة الغربية كي نتخذها قدوة، كأنَّ تاريخ وحضارة وثقافة الإسلام نضبت عن أن تحدثنا عن نِسَاءٍ هُنَّ خيرُ نسَاءِ الأرض جَمْعَاء، وما زال عندنا في الوقت الحاضر الكثير والكثير؛ ولكنَّ الحركة الإسلامية متاورية عن دنيا الناس لأسباب ليس هذا موضع بسطها، ولكن الذي يهمُّنا في هذا المقام هو بسط بعض من حياة سلفنا الصالح من العابدات والمجاهدات والعالمات؛ ليكونوا لأمهاتنا وزوجاتنا وأخواتنا وبناتنا قدوة على مرِّ الزمان. لدينا في تاريخ الإسلام ذكريات حافلة بنجوم مشرقة من أولئك الخيَّرات المستبسلات اللواتي وقفن حياتهن لإعلاء كلمة الإسلام، ورفع رايته، فتاريخ أمتنا الإسلامية مملوءٌ بالعشرات، بل المئات من الوقائع الكبرى، ومن الأسماء المجيدة الخالدة التي تُحيي في قلوبنا العزّة والفخار.
ولقد كان جهاد المرأة المسلمة في خدمة الإسلام واضحًا قويًّا منذ فجر الدعوة، والتاريخ يحفظ لنا اسم تلك الصحابيَّة الوفيَّة أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنيّة، التي قاتلت يوم أُحُد وخرجت أول النهار تنظر ما يصنع الناس ومعها سقاءٌ فيه ماءٌ فانتهت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه والدولة للمسلمين؛ فلما انهزم المسلمون انحازت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامت تباشر القتال وتذُبُّ عنه بالسيف وترمي عنه بالقوس حتى خلصت الجراح إليها.
فكان على عاتقها جرحٌ أجوفُ له غور كان قد أصابها ابن قميئة لما ولَّى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أقبل يقول: دلوني على محمد؛ لا نجوت إن نجا، فاعترضت له هي ومصعب بن عمير وأناس ممن ثبتُوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربها هذه الضربة، ولقد ضربته على ذلك ضربات، ولكنَّ عدو الله كان عليه درعان([1]).
وهذه أسماء بنت يزيد تقتل تسعة من الرُّوم، فقد روى محمد بن مهاجر، وأخوه عمرو، عن أبيهما، عن أسماء بنت يزيد قالت: قتلت يوم اليرموك تسعة([2]).
وكذا أم سليم الرُّميصَاء تتجهز بخنجرها للأعداء يوم حُنَيْنٍ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ: «مَنْ قَتَلَ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ» فَقَتَلَ أَبُو طَلْحَةَ يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ رَجُلاً وَأَخَذَ أَسْلابَهُمْ وَلَقِيَ أَبُو طَلْحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ وَمَعَهَا خِنْجَرٌ، فَقَالَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا هَذَا مَعَكِ؟ قَالَتْ: أَرَدْتُ وَاللَّهِ إِنْ دَنَا مِنِّي بَعْضُهُمْ أَبْعَجُ بِهِ بَطْنَهُ، فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ أَبُو طَلْحَةَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ([3])
وفي غزوة الخندق تجمع أحزاب المشركين وعسكرت قبائلهم قرب المدينة، وشغل النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون بأمر الخندق ثم خان بنو قريظة في معاهدتهم، فأحدثوا بذلك ثغرة داخلية في قوة الإسلام إذ ذاك، وهنالك اُبْتُلِيَ المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديدًا، وكان بنو قريظة يؤذون المسلمين من الخلف ويساعدون الأحزاب.
وكان النساء بالمدينة بمعْزِلٍ عن الجيش، ولم يكن لديهنَّ من الجنود من يمنعهُنَّ غائلة اليهود من بني قريظة، وفي تلك الأثناء أقبل يهوديٌّ فاطّلع على مكانهن، ورأته صفيَّةُ بنت عبد المطلب عمَّة رسول الله، فطلبت إلى حسَّان أن يقتل ذلك اليهودي خشية أن يُطلع بني قريظة على عورات المسلمين، ولكنَّ حسَّان اعتذر وتخلَّف عن الإقدام، فتقدمت صفيَّة رضي الله عنها وحملت عمودًا من بعض الخيام وضربت به رأس اليهودي فسقط على الثَّرى قتيلاً. ([4])
وكانت أعمالهن غالبًا مداواة الجرحى، وإطعام الجند وسقيهم، وتشجيعهم وبث الحمية في قلوبهم على القتال، فعَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «نَسْقِي وَنُدَاوِي الْجَرْحَى وَنَرُدُّ الْقَتْلَى إِلَى الْمَدِينَةِ». ([5])
وعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الأَنْصَارِيَّةِ قَالَتْ: «غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ غَزَوَاتٍ أَخْلُفُهُمْ فِي رِحَالِهِمْ فَأَصْنَعُ لَهُمْ الطَّعَامَ وَأُدَاوِي الْجَرْحَى وَأَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى».([6])
فهذه المواقف يتجلَّى فيها ما كان للمرأة المسلمة من صدق اليقين، وكمال الغَيْرَةِ على الدين، وحرصها أن لا تحرم من شرف الجهاد مع المسلمين؛ لتنال فخر المجاهدين وأجر الصابرين
وفي مجال الصّبر على المصائب نجدُ السميراء بنت قيس -إحدى نساء بني دينار- وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأُحُدٍ؛ فلما نُعوا لها قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: خيرًا يا أمَّ النعمان هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتّى أنظر إليه، قال: فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل([7]).
وهذه أسماء بنت أبي بكر يدخل عليها الحجاج بن يوسف بعد ما قتل ابنها عبد الله بن الزبير -وقد صلبه على جذع فوق الثنيّة- فقال: أرأيتِ كيف نصر الله الحق وأظهره فقالت: ربما أديل الباطل على الحق وأهله وإنك بين فرثها والجنة فقال: إن ابنك ألحد فى هذا البيت، وقد قال الله تعالى: "ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ندقه من عذاب أليم" وقد أذاقه الله ذلك العذاب الأليم، قالت: كذبت كان أول مولود فى الإسلام بالمدينة، وسُرَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم وحنَّكَه بيده وكبَّر المسلمون يومئذ حتى ارتجَّت المدينة فرحًا به، وقد فرحت أنت وأصحابك بمقتله، فمن كان فرح يومئذ بمولده خير منك ومن أصحابك، وكان مع ذلك برًّا بالوالدين صوَّامًا قوَّامًا بكتاب الله معظّمًا لحرم الله؛ يبغض من يعصي الله عز وجل، أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم لسمعته يقول: سيخرج من ثقيف كذّابان الآخر منهما شرٌّ من الأول، وهو مبير فانكسر الحجاج وانصرف. ([8])
وقيل لابن عمر: إن أسماء في ناحية المسجد فمال إليها وقال: إن هذا الجسد ليس بشىء؛ وإنما الأرواح عند الله فاتقى الله واصبري، فقالت: وما يمنعني من الصبر وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغيٍّ من بغايا بنى إسرائيل. ([9])
وهذه معاذة بنت عبد الله، السّيدة العالمة، أم الصَّهباء العدويّة البصريّة العابدة، زوجة السيّد القدوة صلة بن أشيم، لما استشهد زوجها صلة وابنها في بعض الحروب، اجتمع النساء عندها، فقالت: مرحبًا بكُنَّ، إن كُنتنَّ جئتن للهناء، وإن كنتنَّ جئتن لغير ذلك فارجعن. ([10])
فالصَّبْرَ الصَّبْرَ يا نسَاءَ فلسطين، وليكن في هؤلاء السَّلف الصَّالح قدوةٌ لكُنَّ فموتاكم شهداء في الجنَّة، قال تعالى عنهم: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران170-171]
وفي مجال التقوى والورع نجد ميمونة بنت شاقولة الواعظة التي هي للقرآن حافظة، ذكرت يومًا في وعظها أن ثوبها الذي عليها وأشارت إليه له في صحبتها تلبسه منذ سبع وأربعين سنة وما تغيَّر، وأنه كان من غزل أمها. قالت: والثوب إذا لم يُعْص الله فيه لا يتخرق سريعًا.
وقال ابنها عبد الصمد كان في دارنا حائطٌ يريد أن ينقضَّ فقلت لأمي: ألا ندعو البنَّاء ليصلح هذا الجدار فأخذتْ رقعة فكتبتْ فيها شيئًا ثم أمرتني أن أضعها في موضع من الجدار فوضعتها؛ فمكث على ذلك عشرين سنة، فلما توفيت أردت أن أستعلم ما كتبت في الرقعة، فحين أخذتها من الجدار سقط، وإذا في الرقعة: إنَّ الله يُمْسِك السموات والأرض أن تزولا، اللهم مُمْسِك السموات والأرض أمسكه. ([11])
وما كان هذا ليكون إلا بقوة الإيمان واليقين والتوكُّل على الله فى الأمر كلِّه، فهل فى نسائنا العابدات القانتات التى لو أقسمت على الله لأبرها؟!.
وأيضًا هذه رابعة العدوية، قالت عنها عبدة بنت أبي شوال: كانت رابعة تصلي الليل كله، فإذا طلع الفجر، هجعت هجعة حتى يسفر الفجر، فكنت أسمعها تقول: يا نفس كم تنامين، وإلى كم تقومين، يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا ليوم النشور([12])
وفي مجال الصدق مع الله نجد أم سليم مهرها الإسلام، فعَنْ أَنَسٍ قَالَ خَطَبَ أَبُو طَلْحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ فَقَالَتْ وَاللَّهِ مَا مِثْلُكَ يَا أَبَا طَلْحَةَ يُرَدُّ وَلَكِنَّكَ رَجُلٌ كَافِرٌ وَأَنَا امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ وَلا يَحِلُّ لِي أَنْ أَتَزَوَّجَكَ فَإِنْ تُسْلِمْ فَذَاكَ مَهْرِي وَمَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ فَأَسْلَمَ فَكَانَ ذَلِكَ مَهْرَهَا قَالَ ثَابِتٌ فَمَا سَمِعْتُ بِامْرَأَةٍ قَطُّ كَانَتْ أَكْرَمَ مَهْرًا مِنْ أُمِّ سُلَيْمٍ الإِسْلامَ فَدَخَلَ بِهَا فَوَلَدَتْ لَهُ. ([13])
وفي مجال الصدقة تبرعوا بكل شيء حتي الحُلِي؛ فعن ابْنِ عَبَّاسٍ خَطَبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد وأتى النساء فَذَكَّرَهُنَّ وَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ وَبِلالٌ قَائِلٌ بِثَوْبِهِ فَجَعَلَتْ الْمَرْأَةُ تُلْقِي الْخَاتَمَ وَالْخُرْصَ وَالشَّيْءَ. ([14])
وعن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة245] قال أبو الدَّحداح: يا رسول الله أو إن الله تعالى يريد منا القَرْضَ؟ قال: " نعم يا أبا الدَّحداح قال: أرني يدك؛ قال فناوله؛ قال: فإني أقرضتُ الله حائطًا فيه ستمائة نخلةٍ، ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدَّحداح فيه وعياله؛ فناداها: يا أم الدَّحداح؛ قالت: لبيك؛ قال: اخرجي، قد أقرضتُ ربي عز وجل الحائط. قالت أمُّ الدَّحداح: ربح بيعك بارك الله لك فيما اشتريت، ثم أقبلت على صبيانها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم؛ حتى أفضت إلى الحائط الآخر.([15])
فأين أنت أختي المسلمة من هذا الخلق، وأين أنت من الحرص على دفع الزوج دفعًا للتصدق في سبيل الله وعدم لومه أو توبيخه أو ذمّه من أجل دراهم معدودة، فكثير من الأزواج لا يستطيع البوح لزوجته بما تصدق به في سبيل الله؛ فاللَّوْمُ جاهز من الزوجة، والمبرّرات جاهزة من أن الأولاد أحقُّ بهذا من أيّ أحد، وأمثال الجاهلية جاهزة مثل: (ما احتاجه البيت حرم على المسجد)، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي مجال العلم نجد عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصارية الفقيهة، تربية عائشة وتلميذتها، روى القاسم بن محمد أنه قال: أتيتها -لطلب العلم- فوجدتها بحرًا لا ينزف([16]) ، وكثير من الفقيهات على مرّ التاريخ ذُكرن في كتب أهل العلم، وتراجمهن معلومة أمثال: فاطمة أمّ البنين النيسابوريّة، وفاطمة بنت القاسم، وبيبي، وشهدة الكاتبة، وكريمة، وتجني بنت عبد الوهاب، وفاطمة أم البنين، وخديجة بنت الحسن، وغيرهن الكثير.
فأسأل الله العظيم ربَّ العرش العظيم أن يرزق الأمة نساءً كهؤلاء يستأنفنا تاريخ الأمة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.